قال في الذكرى الـ 108 للاعلان، ان الاستيطان في الضفة الغربية يتناقض مع “وعد بلفور”
تفصل ورقةٌ رقيقة بين التاريخ والحاضر. يقول اللورد رودريك بلفور، وهو يرفع نسخة مصوّرة من رسالة تعود إلى العام 1917 التي ساهمت في إعادة تشكيل الشرق الأوسط وما زالت تشعل المشاعر من غزة إلى عواصم ومدن عربية وغربية: “هذه هي الورقة التي بدأت كل شيء”.
في ذكرى اعلان وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور “الوعد” في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917، يتنقل “حفيد بلفور” في حواره مع “المجلة” داخل منزله في لندن، من ذكريات العائلة إلى أكثر القضايا تعقيدا في الحاضر: الضفة الغربية وغزة، هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 التي مرت ذكراها الثانية، وموجة الاعترافات الدولية الأخيرة بدولة فلسطين و “حل الدولتين”.
لا يدّعي أنه “مؤرخ أو محام”، لكنه يحمل إرثا لا يعرف عمقه إلا القليل من العائلات. فهو حفيد آرثر بلفور شقيق وزير الخارجية البريطاني في زمن الحرب، ويحمل اسما يعرفه العرب جيدا، وأحيانا أكثر مما يرغبون، إنه “وعد بلفور”. يضاف الى ذلك، أن جده صديق “لورانس العرب”. ولاشك ان بلفور ولورانس، لعبا قبل حوالى مئة عام، دورا في رسم خريطة الشرق الأوسط الراهنة.
من طفولته، حيث كانت نسخة من “إعلان بلفور” معلقة “على ظهر باب المرحاض”، إلى لقائه بالوثيقة الأصلية في المتحف البريطاني، ثم مشاركته في فعاليات مرور مئة عام على صدورها قبل ثماني سنوات، عاش اللورد بلفور طويلا في ظل هذا النص التاريخي. وهو يرى “الوعد” رسالة صاغتها ظروف الحرب العالمية الأولى، وضغوط جماعات الضغط اليهودية عبر الأطلسي واليهود الذين نزحوا من أوروبا الشرقية.
ومع ذلك، فهو يصرّ على بند منسي، وهو التعهد بعدم المساس بـ”الحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين”. بالنسبة إليه، ذلك البند في الوعد ليس هامشيا بل أساسي، لكنه “أُهمل مرارا وتكرارا” وخصوصا جراء توسع المستوطنات في الضفة الغربية.
يتنقل الحديث في أكثر القضايا تعقيدا في الحاضر. يتحدث بلفور بحذر، لكن دون مراوغة. فهو يؤيد “حل الدولتين” كغايةٍ نهائية، لكنه يتساءل عن جدوى الاعتراف في غياب حدود متفق عليها، ومؤسسات فاعلة، وقيادة مسؤولة، مع اقراره ان الاعتراف “خطوة رمزية”. وهو صريح في معارضته لتوسع المستوطنات في الضفة الغربية، واصفا إياه بأنه “يتناقض مع روح” الوعد الذي قدمه “عمه الأكبر”. كما يؤكد أن “القراءة الدقيقة للنص تغيّر فهمنا للمسؤولية وضبط النفس، وللالتزامات تجاه الفلسطينيين كما تجاه اليهود”.
وإلى صلة القرابة مع بلفور، هناك صلة مع شخص بريطاني آخر ساهم في تغيير خريطة الشرق الأوسط على أنقاض “الرجل المريض”، الإمبراطورية العثمانية قبل أكثر من مئة سنة. ويمتزج التاريخ الشخصي بالسياسة في حديثه. فيتذكر جده فرانسيس بلفور، الذي كان “عربيّ الهوى” وخدم في المنطقة، وتعرّف إلى شخصيات مثل توماس لورانس أو “لورانس العرب” الذي دعم العرب لـ “الثورة” ضد العثمانيين.
يتحدث بمحبة واضحة تجاه الثقافات العربية، وبإحباط من أن الوعد يُستشهد به كثيرا دون أن يُقرأ فعليا. يقول: “الناس يحتجون على الرسالة، لكنهم لا يقرؤونها”. وبالنسبة إليه، الجدل الدائر حول اسم العائلة لا يمكن فصله عن نقاشٍ حول دقة الكلمات، والتحذيرات التي أُهملت، والعواقب التي تلت ذلك.
جلست مع اللورد رودريك بلفور في شقته في لندن في بداية اكتوبر/تشرين الاول، لاختبار قوة صفحة واحدة، وحدودها في هذه اللحظة المهمة في تاريخ الشرق الأوسط، على وقع خطة الرئيس دونالد ترمب لوقف حرب مجنونة في غزة وجهود لإحياء “حل الدولتين” واتساع مروحة الاعتراف بدولة فلسطين إلى 157 دولة.
المجلةاللورد رودريك بلفور خلال حواره مع “المجلة” في لندن في اكتوبر/تشرين الأول 2025
هذه المقابلة لا تمجّد وثيقة، ولا تختزل قرنا من السياسة بين الخيبات والطعنات. والأسئلة والإجابات قد لا ترضي الجميع، لكن قد تساعدنا على إدراك ما إذا كانت أكثر الرسائل جدلا في التاريخ لا تزال قادرة على إضاءة طريق نحو “حل الدولتين” و”دولة فلسطينية” وسلام مستدام. وهنا نص الحوار:
* ما هذه الورقة التي تحملها؟
– إنها نسخة من الرسالة التي بعث بها مجلس الوزراء البريطاني، ممثلا في وزير الخارجية آنذاك آرثر بلفور، إلى اللورد (ليونيل دي) روتشيلد، الذي كان بطبيعة الحال من أبرز الشخصيات اليهودية في إنكلترا، وذلك عقب ضغوط كبيرة. لست مؤرخا ولا قانونيا، لذا أرجو أن لا تحاول دفعي إلى الإدلاء بتصريح قد لا يكون دقيقا تماما. ما أعلمه أن هناك ضغوطا عديدة مورست، وكان الموضوع مرتبطا بالولايات المتحدة وبالحرب العالمية الأولى. وبالطبع، تعود المسألة إلى قضية الهجرة، التي كانت، ولا تزال، معضلة كبرى.. الهجرة واللاجئون. العالم يتقدم، لكنه لا يتغير في جوهره كثيرا.
الوثيقة لا تتحدث عن “دولة”، وما ورد فيها هو: “تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين”
اللورد روتشيلد كان أحد أبرز الشخصيات اليهودية في بريطانيا في مطلع القرن العشرين. وفي تلك الفترة، تعرّض اليهود في الإمبراطورية الروسية لموجات من المذابح والاضطهاد، أجبرهم القيصر على النزوح، فهاجر عدد كبير منهم إلى المملكة المتحدة. ومن بين هؤلاء المهاجرين برز تيار عُرف آنذاك بـ”الصهاينة”، ضغط بقوة على الحكومة البريطانية لدعم مشروع إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
أما إن كانت النية آنذاك تتجه نحو تحويل فلسطين إلى دولة يهودية، فلا أعلم، وربما تكشف أبحاثك عن ذلك، لأن الوثيقة لا تتحدث عن “دولة”، فما ورد فيها هو: “تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف”.
* من هو آرثر بلفور بالنسبة إليك؟
– إنه شقيق جدّي الأكبر. هذه أبسط طريقة لتوضيح العلاقة.
أ.ف.بوزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور، عام 1917
* هل التقيت به؟
– لا، فقد وُلدت عام 1948، بينما توفي هو عام 1930.
* متى سمعت لأول مرة عن وعد بلفور؟
– أعتقد خلال حرب عام 1967، حين كنت أعمل في صحيفة “نيويورك هيرالد تريبيون”.
* هل كانت تلك أول مرة تسمع فيها عنه؟
– أعني، كنت أعرف عنه لأن نسخة من الإعلان كانت معلقة خلف باب المرحاض.
* متى رأيت النسخة الأصلية من الإعلان لأول مرة؟
– رأيته مرة واحدة فقط النسخة الأصلية موجودة في المتحف البريطاني. بل لعلي رأيته مرتين: مرة هناك، ومرة أخرى حين أُحضرت النسخة من المتحف البريطاني بمناسبة الذكرى المئوية لوعد بلفور.
* لكن كانت هناك نسخة معلقة في مرحاض العائلة؟
– فقط نسخة مصورة مثل هذه (التي أحملها بيدي)، كانت معلقة في مرحاضنا.
* ورأيتها حينها؟
– نعم، في كل مرة ندخل فيها المرحاض، كانت معلقة هناك. كنا صبية، ولم نكن نولي الأمر أي اهتمام.
* متى كانت أول مرة قرأت فيها الإعلان بدقة؟
– لا يمكنني تحديد ذلك بدقة. لكن عندما بدأت أدرسه بعناية، كلمة كلمة، كان ذلك خلال احتفالات الذكرى المئوية لوعد بلفور. أردت أن أكون دقيقا جدا فيما أقوله، لذا قرأته بتمعن شديد، لأنني لم أرد أن أخطئ في أي كلمة. ولهذا السبب، عندما أتحدث إلى شخص مثلك، أحرص دائما على أن تكون الوثيقة أمامي، حتى لا أزلّ في التعبير.
بالنسبة لي، بدا الإعلان دائما وكأنه بادرة إنسانية عميقة. وما لم نكن متطرفين– نتفق على أنها، بمعنى ما، تنتمي إلى الديانات الإبراهيمية الثلاث
* نسخة من الوثيقة كانت معلّقة على الباب، لكن من علّقها؟ ومتى؟
– حسنا، لقد كانت تُعتبر وثيقة شهيرة نوعا ما داخل عائلتنا، على ما أظن. والدي كان يعرف آرثر بلفور جيدا، فقد وُلد أبي في عام 1921، بينما توفي بلفور في عام 1930، وقد أمضى وقتا طويلا معه في منزل العائلة في اسكتلندا. لكن، بالطبع، والدي كان في التاسعة فقط عندما توفي آرثر، ولا أعتقد أنه جلس معه في ذلك العمر وقال له: “دعنا نناقش وعد بلفور سويا”.
أ.ف.بصورة من بيان صحفي صادر عن مكتب الصحافة الإسرائيلي بتاريخ 24 أكتوبر 2017، تظهر نسخة من وعد بلفور المؤرخ في 2 نوفمبر 1917
* لكن الوثيقة بقيت معلقة هناك لفترة طويلة، ثم قرأتها ذات يوم؟
– لا، لقد درستها بعناية لاحقا، كما قلت. من المؤكد أنني قرأتها خلال حرب الأيام الستة.
* حرب 1967… وماذا شعرت عندما قرأتها؟
– فكّرت في الأمر بعد أن قرأت ودقّقت: تعرّفت على مذابح اليهود، وأزمة اللاجئين، والضغوط التي كانت تواجهها الحكومة البريطانية آنذاك من الجالية اليهودية الأميركية، إن لم أكن مخطئا، والتي كانت تدعم بريطانيا خلال الحرب الكبرى. بالنسبة لي، بدا الإعلان دائما وكأنه بادرة إنسانية عميقة. فبالنهاية، يمكن للناس أن يتجادلوا إلى ما لا نهاية حول “ملكية” فلسطين، لكنني أعتقد أننا جميعا– ما لم نكن متطرفين– نتفق على أنها، بمعنى ما، تنتمي إلى الديانات الإبراهيمية الثلاث.
* المسلمون، واليهود، والمسيحيون؟
– نعم، المسلمون، واليهود، والمسيحيون. وأعتقد، للأسف، أن التوازن قد اختل، إذ يبدو أن طرفا واحدا من هؤلاء الثلاثة مصمم على أن لا يكون للطرفين الآخرين مكان في فلسطين من النهر إلى البحر.
* لكنك قلت إن الإعلان كان بادرة إنسانية تجاه اليهود، أليس كذلك؟ هل شعرت أنه جاء على حساب الفلسطينيين؟
– لا، لأن النص واضح جدا. يقول (يقرأ من نسخة الإعلان): “ستبذل حكومة صاحب الجلالة قصارى جهدها لتحقيق هذا الهدف، على أن يفهم بوضوح أنه لن يتخذ أي إجراء من شأنه أن يمس الحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين…”
* هل المقصود الفلسطينيين؟
– كان المقصود بذلك جميع من كانوا يعيشون في فلسطين آنذاك. وإذا نظرنا إلى الروايات التاريخية حول عام 1920، نجد أن عدد سكان فلسطين الكبرى– التي كانت، بحسب ما أفهم، تشمل أجزاء من سوريا والأردن– لم يتجاوز نحو 700 ألف نسمة. وكانت المنطقة قليلة السكان. لذلك لا أظن أن المسألة كانت تعد مثيرة للجدل في ذلك الوقت. وبعد الحرب الكبرى وهزيمة الدولة العثمانية، جاء مؤتمر سان ريمو عام 1920 بهدف إرساء الاستقرار في المنطقة، ومن هناك بدأت التطورات تتخذ مسارا جديدا.
ثم جاءت الحرب العالمية الثانية، والمحرقة. وإن لم تكن تلك إبادة جماعية، فماذا تكون؟ لقد قلبت تلك الأحداث الموازين تماما، في رأيي. واليهود، بطبيعتهم، كانوا نشطين للغاية. حين وصلوا، أسسوا الكيبوتسات، وزرعوا الأرض، واستثمروا كل شبر منها، وهي أرض كانت في معظمها تستخدم للرعي فقط. وأعتقد أن هذا ساهم في اختلال التوازن.
الإعلان ينص بوضوح على أنه: “يفهم جليا أنه لن يتخذ أي إجراء من شأنه أن يمس الحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين”
لكن الكثير ينسى، ولعله لم يقرأ أن هناك نحو مليونين ونصف المليون من العرب المقيمين إقامة دائمة في إسرائيل ويعملون فيها، وإن كانوا محرومين من حقّ امتلاك أعمالهم التجارية الخاصة. وقد عرفت أحدهم شخصيا: وهو خبّاز في يافا يُدعى أبو العافية، كان المورّد الرئيس للخبز إلى المجتمع اليهودي. وتصادف أنّ يوم الغفران، يوم الصوم في الديانة اليهودية، وكان ينجز جميع عمليات الخَبز مسبقا، حتى يتمكّن اليهود، بعد انتهاء الصيام في اليوم التالي أو عقب غروب الشمس بحسب التوقيت، من شراء الخبز الطازج الجاهز.
لقد كان هناك تعايش سلمي في معظم الفترات السابقة، قبل أن تتفاقم الأزمات الأخيرة.
* في الذكرى المئوية لوعد بلفور، أقيمت فعاليات كبيرة، والتقيت بابن شقيق لويد جورج رئيس الوزراء وآخرين. كيف كان شعورك، وأنت تمثل الجيل الثالث أو الرابع من أشخاص اتخذوا قرارات غيّرت مجرى تاريخ الشرق الأوسط وتقابل باعتراض عربي كبير؟
– أنت تقول “غيروا تاريخ الشرق الأوسط”. من المؤكد أن الإعلان كان له أثر، لكنه أثر لم يكن من الممكن التنبؤ به في ذلك الوقت، خاصة في ظل الأحداث اللاحقة مثل “الهولوكوست”. لقد كان هذا مجرد بداية، وأعتقد أن من الظلم أن يُلقى اللوم كله على هذه الرسالة، التي لم تفعل سوى التعبير عن جملة من التطلعات.
أ ف بناشط يمزق رسما لوزير خارجية بريطانيا أرثر بلفور في كلية ترينيتي بجامعة كامبردج البريطانية في مارس/آذار 2024
أود أن ألتقي بالشخص الذي رش الطلاء البرتقالي على صورة آرثر بلفور في كلية ترينيتي بجامعة كامبريدج (في مارس/اذار 2024). وأود فقط أن أطلب منه أن يقرأ هذه الوثيقة، ويفهم ما ورد فيها بوضوح. هذا الموقف جعلني غير محبوب في بعض الأوساط داخل المجتمع الإسرائيلي، ولم يرغبوا كثيرا في مشاركتي في فعاليات الذكرى المئوية، لأنني قلت إن هذا الجزء من الإعلان قد تم تجاهله، وأن ما يحدث في الضفة الغربية يتناقض تماما مع ما ورد فيه. فلماذا يلقى اللوم على آرثر (بلفور)؟ لا أدري، لكن يبدو أن الفلسطينيين يحبون فعل ذلك.
* هل تعتقد أن ما يحدث الآن في الضفة الغربية وغزة يتعارض مع ما ورد في “وعد بلفور”؟
– حسنا. غزة حالة أكثر تعقيدا، ويجب أن نكون حذرين عند الحديث عنها. أما الضفة الغربية، فهي في رأيي تمثل تناقضا واضحا. فالمشكلة لا تكمن كثيرا في القدس كما أفهم، بل في الضفة الغربية نفسها، ولا سيما في المستوطنات وطريقة توسعها، التي تتعارض تماما مع مبادئ الإعلان، على الأقل من وجهة نظري غير المتخصصة.
* لماذا؟
– لأن الفلسطينيين يُدفعون خارج أراضيهم.
* هل مكن ان تشرح لماذا يُعد ذلك متعارضا مع “وعد بلفور”؟
– لأن الإعلان ينص بوضوح على أنه (يقرأ من النص): “يفهم جليا أنه لن يتخذ أي إجراء من شأنه أن يمس الحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين”.
يحيرني كيف يمكن الاعتراف بشيء لا وجود فعليا له، ولم يُنشأ بحدود واضحة أو بحكومة قائمة
* هل تقصد أن غزة ليست جزءا من فلسطين؟
– لا.. غزة جزء من فلسطين. لكن علينا العودة إلى 1948. بعد إعلان قيام دولة إسرائيل، وموافقة الأمم المتحدة على ذلك، أعلنت الدول العربية الحرب عليها. ومن خلال ما قرأته في كتب التاريخ، يبدو أن تلك الدول كانت تسعى، منذ البداية، إلى القضاء على إسرائيل. ثم، مع مرور الزمن، أدى ذلك إلى نزوح أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين إلى الأردن ومصر (وسوريا ولبنان)، على ما أظن. وبعد ذلك، وقعت حادثة أخرى، حين أغلق الرئيس المصري جمال عبد الناصر ممرا مائيا بالغ الأهمية، كان ضروريا لوصول السفن إلى ميناء إيلات، بحسب ما أفهم.
* مضيق تيران في 1967؟
– نعم، أثار قلقا كبيرا لدى إسرائيل بشأن التهديد العربي، وكان عبد الناصر شخصية صعبة التعامل. ثم اندلعت حرب عام 1967، حين اجتمعت الدول العربية لشن هجوم على إسرائيل، لكنها مُنيت بهزيمة ساحقة، واستولت إسرائيل على هضبة الجولان ومناطق أخرى. صدت الهجوم، إن صح التعبير، وهذا ما أوصلنا إلى الوضع القائم. بعد ذلك، تُركت غزة لتدير شؤونها بنفسها. وأعتقد أن الأمور كانت تسير بشكل معقول نسبيا حتى اندلاع الانتفاضة ثم انسحبت إسرائيل.
وإذا كانت كتب التاريخ دقيقة، فإن حركة “حماس” والفلسطينيين دمروا جزءا كبيرا من الموارد الإنتاجية التي تركها الإسرائيليون خلفهم في غزة.
* في عام 2005 بعد قرار آرئيل شارون بالانسحاب؟
– نعم، كل البيوت الزجاجية، وكل شيء تقريبا، دمر. لماذا؟ هل كانت السلطة الفلسطينية حريصة على رعاية شعبها؟ أم إن لديها أجندة أخرى؟ ويبدو أن تلك الأجندة، كما يُقال، تهدف إلى القضاء على إسرائيل. وهم يعلنون ذلك صراحة: من النهر إلى البحر.
* من تقصد؟
– “حماس”.
* لكن لدينا الآن 157 دولة من 193 دولة عضو بالأمم المتحدة تعترف بدولة فلسطين؟
– يحيرني كيف يمكن الاعتراف بشيء لا وجود فعليا له، ولم يُنشأ بحدود واضحة أو بحكومة قائمة. يمكنني، مثلا، أن أقول إنني أؤيد استقلال جزيرة وسط المحيط الهندي لا يسكنها أحد. لا بد أن يكون للكيان شكل وهيئة، كما أعتقد. أرى أن هذا الاعتراف مجرد إيماءة لا معنى لها.
الضفة الغربية لم تشهد انتخابات منذ عشرين عاما، لأن (الرئيس) محمود عباس لا يرغب في ذلك. فهل هذه هي الترتيبات التي يُراد الاعتراف بها كدولة؟
* الاعتراف خطوة سياسية مهمة…
– رمزية، وليست بلا معنى، معك حق.
* رمزية؟
– لكن ما الذي ستحققه؟ أعني، أي أثر سيتركه ذلك الاعتراف؟ المشكلة، من وجهة نظري، أن الأمم المتحدة كان ينبغي أن تتدخل، لا من خلال الأونروا فقط، بل في غزة أيضا. كان ينبغي أن تتدخل قبل عشرة أو عشرين عاما، عبر نشر قوات حفظ سلام كما حدث في الكونغو والسودان. لكن لم تتدخل فعليا قط. كل ما فعلته هو إصدار قرارات لا تنتهي للاحتجاج على إسرائيل. وهذا ما جعل إسرائيل في غاية التوتر، ودفعها إلى الدفاع عن نفسها.
* الفلسطينيون يرون الصورة عكس ذلك…
– لا أنحاز إلى طرف، لكن كل الحجج تبدو غير متوازنة.
* ماذا تقصد؟
– أعني أن الجميع ينحاز دائما إلى جانب الفلسطينيين. لماذا لا يستطيع الفلسطينيون واليهود العيش جنبا إلى جنب بسلام؟ إسرائيل، وأعلم أنني أبدو كمن يدافع عنها، تحظى بتعاطفي الشديد، لأنها لم تهاجم أحدا، إلا دفاعا عن النفس في الغالب. قد يجادل البعض أن الاغتيالات الأخيرة التي طالت إيرانيين وعناصر من “حزب الله” تصعيد جديد، لكن قبل ذلك، كانت إسرائيل دائما هي الطرف المعتدى عليه، كما أرى.
رويترزتعرض الشاشات عدد الأصوات أثناء تصويت أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة على القضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين، في مقر الأمم المتحدة في مدينة نيويورك، الولايات المتحدة، سبتمبر/أيلول 2025
* هناك كثيرون يرون الصورة عكس ذلك. لكن كيف تنظر الى اعتراف المملكة المتحدة بدولة فلسطين؟
– لا أفهم أصلا ما الذي يُفترض بنا أن نعترف به. أرني على الخريطة ما الذي نعترف به.
* هناك 157 دولة اعترفت…
– سلْ أيا منهم ما الذي يعترفون به.
* هو ضمن العمل على “حل الدولتين”…
– نعم، وأعتقد أنني قلت قبل عشر سنوات، ونقل عني ذلك، إنه من المنطقي أن نسعى جميعا نحو حل الدولتين.
* هل تؤيد “حل الدولتين”؟
– نعم، ولكن لا بد أولا من أن تنشأ الدولتان فعليا، قبل أن يكون من الممكن الاعتراف بهما بشكل جاد، وأن يكون لديهما نظام ديمقراطي منتخب بشكل سليم. أعتقد أنني قرأت أن الضفة الغربية لم تشهد انتخابات منذ عشرين عاما، لأن (الرئيس) محمود عباس لا يرغب في ذلك. فهل هذه هي الترتيبات التي يُراد الاعتراف بها كدولة؟
لا أرغب في تفسير ما إذا كان ما يجري في غزة يُعد محاولة لإبادة وقتل جميع الفلسطينيين في القطاع. لكن، كما تعلم، كان يمكن لـ”حماس” أن تضع حدا لهذا منذ وقت مبكر جدا
* إذن، تعتبر الاعتراف بدولة فلسطين اعترافا رمزيا، وتؤيد “حل الدولتين”… صحيح؟
– نعم، تماما، شريطة أن تكون هناك أنظمة مسؤولة عن الدولتين الفلسطينيتين– وأعني بذلك غزة والضفة الغربية– تلتزم بعدم السعي إلى هزيمة إسرائيل أو تدميرها. وهذه هي المشكلة الكبرى. قيل لي إن عباس لا يريد إجراء انتخابات في الضفة الغربية لأنه يخشى أن تفوز “حماس”، وهذا سيعيد الأمور إلى نقطة الصفر. أعني، هناك فصيل يُنظر إليه على أنه إرهابي من قبل معظم دول العالم، وعددها 193 دولة في الأمم المتحدة، ومهمته المعلنة هي القضاء على إسرائيل.
* لو كان آرثر بلفور وزيرا للخارجية في المملكة المتحدة، ماذا تعتقد أنه كان سيفعل؟ هل كان سيعترف بدولة فلسطين؟
– لا، لكنني أعتقد أنه كان سيتدخل في وقت مبكر جدا. أولا، كان سيشعر بخيبة أمل كبيرة من الطريقة التي تعامل بها الفلسطينيون. لا أظن أنه كان يتصور، حين كتب هذا الإعلان، أن الفلسطينيين سيصبحون عدائيين إلى هذا الحد تجاه السكان اليهود المهاجرين. أعتقد أنه كان سيتدخل مبكرا ليقول لإسرائيل: نحن دعمناكم في إقامة وطن لليهود، لكن جوهر هذا الإعلان- إذا قرأتموه بعناية–قائم في مجمله على الأمنيات، مثل: “تنظر بعين العطف”، وليس “ستنشئ دولة في فلسطين”، و”ستبذل قصارى جهدها”. ثم الجزء القوي هو لـ”تسهيل تحقيق هذا الهدف”، أي إن كلمة “تسهيل” لا تعني، كما تعلم، أننا سنخوض حربا من أجل ذلك.
* تقصد أن الصياغة دقيقة ومدروسة بعناية…
– نعم، مدروسة بعناية شديدة. لكن حين يقول: “على أن يفهم بوضوح”، فهذه ليست أمنية، بل أمر صريح، أنه “لن يتخذ أي إجراء من شأنه أن يمس الحقوق المدنية والدينية”.
كان (آرثر بلفور) سيصدم مما يحدث اليوم. لكنه، بطبيعة الحال، لم يكن حيا خلال فترة المحرقة.
* وماذا عن الهجمات الإسرائيلية على غزة. وصفها حتى بعض المسؤولين البريطانيين السابقين ومؤسسات أممية بأنها “إبادة جماعية”…
– حسنا، في الواقع، قرأت مؤخرا عن معنى الإبادة الجماعية، وهي ما وقع في رواندا والسودان، حين يسعى البعض إلى القضاء على أقسام معينة من السكان أو تصفيتها أو إبادتها. لا أرغب في تفسير ما إذا كان ما يجري في غزة يُعد محاولة لإبادة وقتل جميع الفلسطينيين في القطاع. لكن، كما تعلم، كان يمكن لـ”حماس” أن تضع حدا لهذا منذ وقت مبكر جدا لو أنها أفرجت عن الرهائن.
أعتقد أن القدس ستنتهي دائما بوضع مقسّم فعليا. أي إنها ستكون مقسّمة، لأنني أرى أنه من المستحيل دوليا أن يُقال إنها يجب أن تكون تحت حكم جماعة واحدة فقط
* وافقت على خطة ترمب حاليا؟
– لقد وصلت الأمور الآن إلى مرحلة معينة أخيرا، ليس بفضل الأمم المتحدة، سواء أحببتَ الرئيس ترمب أم كرهته، فهو يعرف كيف يُنجز الأمور، كما تعلم. وها هو الآن يفرض موقفه، وقد حشد الدول العربية والإسلامية إلى جانبه.
أعتقد، كما تعلم، أنني كنت أتمنى لو فُرض مزيد من الضغط على “حماس” خلال العامين الماضيين بهذه الطريقة، لأن ما حدث لم يفد أحدا. كان الأمر فظيعا بالنسبة لأهالي غزة، فظيعا للغاية، وبالطبع بالنسبة للدول الإسلامية، وخاصة العربية منها المطلة على البحر الأبيض المتوسط والخليج وكل تلك المناطق. أعني، هم لا يريدون رؤية حالة من عدم الاستقرار.
رويترزيرفع أفراد وسائل الإعلام أيديهم أثناء مصافحة الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مؤتمر صحفي مشترك في غرفة الطعام الرسمية في البيت الأبيض في 29 سبتمبر 2025
* هل تؤيد إذن خطة ترمب الخاصة بغزة؟
– أؤيد أي إجراء يمكن أن يحد من نفوذ “حماس” ويحقق السلام في الشرق الأوسط.
* لكن جزءا من خطة ترمب هو تمهيد الطريق لإقامة دولة فلسطينية…
– نعم، لأنني آمل أن يؤدي ذلك إلى قدر من الاستقرار، وأن تقوم أنظمة تُعنى بمواطنيها الفلسطينيين أنفسهم. وحتى الآن، لم يخدمهم ما يُسمّى بحكوماتهم على الوجه الأفضل.
* بالنسبة لك، عندما نقول “دولة فلسطينية” ماذا تعني؟ ما مكوناتها؟
– حسنا، أخبرني أنت. هذا بالضبط ما أعيده إليك. كيف يمكن أن نعترف بشيء لا يمكنك حتى أن تحدد لي مكوناته؟
* ماذا عن القدس؟
– حسنا، أعتقد أن القدس ستنتهي دائما بوضع مقسّم فعليا. أي إنها ستكون مقسّمة، لأنني أرى أنه من المستحيل دوليا أن يُقال إنها يجب أن تكون تحت حكم جماعة واحدة فقط.
* هل تتواصل مع مسؤولين بريطانيين هنا؟
– لا، لا أميل إلى ذلك كثيرا. هناك دائما هذا الخطاب الدبلوماسي، وأيديهم غالبا ما تكون مقيدة بطريقة أو بأخرى. وماذا يمكن أن أحقق؟ أنا في غاية الامتنان لأنك جئت لتتحدث معي اليوم. فأنا لست شيئا يُذكر، مجرد حفيد لآرثر. فما أهمية ما أعتقده.
لورانس العرب كان شخصية رومانسية جدا. لم أدرسه بعمق، لكنني استمتعت بمشاهدة الفيلم عنه
* هل يمكن أن تحدثني عن جدك ابن شقيق آرثر بلفور؟
– فرانك، فرانسيس بلفور. كان متعمقا جدا في الثقافة العربية، وكان شغوفا بها.
* كيف ذلك؟
– كان متعمقا جدا في الثقافة العربية، وكان شغوفا بها.
* إذن، هل التقى بآرثر بلفور؟
– أعتقد ذلك. لم أقرأ جميع أوراقه. كلها محفوظة في جامعة درم البريطانية.
رويترزآرثر بلفور أثناء زيارته إلى تل أبيب، في الأول من يونيو عام 1925
* ماذا كان دوره؟
– كانت لدي صورة له على جَمَلِه الذي كان يُدعى “تومي”. كان يشغل منصب الحاكم العسكري لبغداد. كان متعمقا جدا في الشؤون العربية وكان صديقا لكل أولئك الأشخاص مثل (عالمة الآثار) غيرترود بيل و(المستشرقة) فريا ستارك، وكان يعرف “لورانس العرب” جيدا.
* كيف؟
– كان من أبناء تلك الحقبة. للأسف، توفي وأنا ما زلت صبيا. كنت سأكون سعيدا لو كان لا يزال حيا.
* عم والدك الأكبر هو صاحب “إعلان بلفور” وجدك كان صديقا لـ”لورانس العرب”..
– لكن لم يكن يُنظر إليهما حينها على أنهما مثيران للجدل. أعني، كان الجميع يعيش في سلام، في حالة من التعايش السلمي.
* الرجلان لعبا دورا في رسم ملامح الشرق الأوسط الحالي، أو هكذا الانطباع في المنطقة…
– نعم، إلى حد ما.
* ما رأيك في “لورانس العرب”؟
– كما تعلم، كان شخصية رومانسية جدا. لم أدرسه بعمق، لكنني استمتعت بمشاهدة الفيلم عنه. لكن، كما ترى، كان هناك العديد من الأشخاص الذين كانت لديهم نظرة رومانسية تجاه الجزيرة العربية. الناس يجدون العرب مثيرين للاهتمام، الصحراء، الجِمال، ما يسمونها “سفن الصحراء”، وكل ذلك. وأيضا الكرم العربي وطريقة العيش وأسلوب الحياة البدوي بأكمله. كل ذلك كان يجذب الكثير من الكتّاب آنذاك..
* هناك من سيقول انها نظرة استشراقية، لكن هل لديك نسخة أخرى من “إعلان بلفور” أم إن هذه هي النسخة الوحيدة لديك؟
– لا، أقوم فقط بطباعتها عند الحاجة. لكنني أعتقد أن من المهم جدا أن يقرأ الناس هذا الإعلان. معظم من يحتجون على الإعلان بحاجة لأن يُقال لهم ذلك: اقرأوا الإعلان.
- المجلة

























