لم تكن القبيلة في التاريخ العربي الحديث مجرد رابطة اجتماعية تقليدية، بل لعبت أدوارا متعددة منذ القرون الماضية، سواء في مقاومة الاستعمار، أو تنظيم المجتمعات المحلية. ومع ظهور الأنظمة الاستبدادية الحديثة، تحولت بعض القبائل إلى أدوات سياسية فعّالة، استُخدمت بمهارة لتكريس السلطة، وتفتيت المجتمع، وتوزيع الولاءات على أسس ما قبل وطنية.
وفي الحالة السورية، اتخذت هذه الظاهرة أبعادا واضحة، حيث حوّل النظام السابق العديد من مشايخ القبائل إلى وكلاء ضبط اجتماعي، أو ما يشبه «مفارز أمنية» تدير أبناءها لخدمة النظام، لا مصالح مجتمعها. هذه السيطرة لم تكن مجرد سياسة مؤقتة، بل جزءا من استراتيجية طويلة الأمد لضمان البقاء السياسي للنظام، عبر شبكة من الولاءات الممنهجة.
القبيلة كامتداد للسلطة لا كرافعة اجتماعية
منذ عقود، لم تكن القبيلة في سوريا قوة اجتماعية مستقلة، بل صُودرت سياسيا، عبر شبكات الولاء التي أقامها النظام مع الزعامات المحلية، غالبا ما مُنحت امتيازات مقابل الطاعة والسكوت عن جرائم السلطة.. ولم يُترك المجال للقبائل لأن تطور أدواتها ضمن سياق وطني أو مدني، بل حُوصرت داخل إطار وظيفي يخدم بقاء السلطة، ويمنعها من أن تتحول إلى أي كيان يطالب بالعدالة، أو يعبر عن مصالح شعبه. هكذا تحوّل كثير من المشايخ إلى وسطاء بين الدولة والمجتمع، مهمتهم تبرير الاستبداد، وأحيانا التجسس على أبناء قبائلهم الثائرين أو شيطنتهم أمام أجهزة الأمن. هذه الوساطة استُخدمت لترويض المجتمع، وطمس أي صوت معارض، وتحويل الولاءات القبلية إلى آلية ضغط على الحراك الوطني.
شهدت بعض دول المنطقة بعد سقوط أنظمة استبدادية محاولات لإعادة إنتاج الهياكل القبلية، غالبا ما اصطدمت بتطلعات المجتمعات لبناء دولة مدنية مستقلة
وقد أشار ابن خلدون في مقدمته إلى أن العصبية القبلية كانت أساسا لتثبيت الحكومات وبداية الدول، كما حصل مع الأمويين والعباسيين. ولكن ما يحدث في سوريا مختلف تماما؛ فالقبيلة اليوم، رغم أن المجتمع السوري لا يزال في كثير من مناطقه قبليا، لم تعد مؤهلة لتكون نواة لدولة مدنية، أو لإمارة أو مملكة. الولاءات الضيقة والتسييس الداخلي جعلا من القبيلة أداة للسيطرة على المجتمع لا لبناء مؤسسات حقيقية قادرة على الاستقلال السياسي. من أبرز ما ميّز النظام السوري هو استثماره العميق في البنية القبلية، ليس بوصفها مكوّنا اجتماعيا، بل كأداة ضبط أمني داخلي. وقد أدرك النظام باكرا، أن القبيلة تُشكل فضاءً له ثقله الاجتماعي في بعض المناطق، فاحتوى مشايخها ومنحهم الامتيازات والمناصب، مقابل أداء وظيفة خطيرة: تحييد أبناء القبائل عن أي حراك سياسي وزرع ثقافة الولاء للنظام في مواجهة أي صوت معارض. كما أن النظام السوري لم يقتصر على احتواء مشايخ القبائل لضبط أبنائهم، بل عمل أيضا على اختزال كل مكونات الجزيرة السورية في هؤلاء المشايخ، ليصوّر للداخل السوري، خصوصا في دمشق والمناطق الأخرى، أن المنطقة خالية من مثقفين أو نخب تعليمية حقيقية، وأن كل ما فيها عبارة عن زعماء قبليين. هذا الاختزال أعطى النظام شرعية مضللة للسيطرة، إذ بدا وكأن المجتمع هناك غير مؤهل للمشاركة السياسية، فيما كان الواقع مليئاً بالنخب والمثقفين الذين تم تجاهلهم، أو تهميشهم لصالح هيمنة القبيلة. ورغم هذا الترويض المنهجي، انخلع العديد من أبناء القبائل من الولاءات الضيقة، ورفضوا الاصطفاف وراء زعامات صارت تعمل لمصلحة النظام.
خرج هؤلاء من عباءة القبيلة الضيقة إلى الفضاء الوطني الأوسع، وكانوا في طليعة الثوار، مقدّمين أرواحهم فداء للحرية والكرامة. ومن بقي منهم اليوم يحمل إرثا ثقيلا من التضحيات، ويواجه تحدي الاستمرار في النضال من دون أن يُعاد إنتاجه ضمن قالب قبلي جديد.
مؤتمر شمر: نموذج لإعادة إنتاج القبيلة بعد سقوط النظام
يُعد مؤتمر «قبيلة شمر»، الذي عُقد في دمشق نموذجا لمحاولات إعادة إنتاج القبيلة في مرحلة ما بعد سقوط النظام، واستخدامها مجددا كأداة سياسية لتفكيك المجتمع، وتكريس السلطة في يد فئة محدودة من الوجهاء والمشايخ. لم يكن المؤتمر بريئا في توقيته أو رسائله، بل عكس كيف تحاول بعض النخب العشائرية تقديم فروض الطاعة والولاء من جديد، تحت لافتة «التمثيل القبلي»، في وقت تجاوز فيه الشعب السوري مرحلة الخضوع لأي سلطة غير وطنية. هذه التجربة ليست فريدة في سوريا؛ فقد شهدت بعض دول المنطقة بعد سقوط أنظمة استبدادية مماثلة محاولات لإعادة إنتاج الهياكل القبلية، غالبا ما اصطدمت بتطلعات المجتمعات المدنية لبناء دولة مدنية مستقلة.
ازدواجية الخطاب القبلي والسياسي: بين الولاء القبلي والانتماء الوطني
لا يمكن الحديث عن القبيلة في سياق الثورة السورية، من دون الإشارة إلى ظاهرة ازدواجية الخطاب بين الولاء القبلي والانتماء الوطني. فقد ظهر بعض الأفراد الذين كانوا أصواتا للثورة والإصلاح، يعودون لاحقا إلى أطر قبلية ضيقة، مدافعين عن مصالح عشائرهم أو قبائلهم، مسوقين لها وكأنها كانت حاضنة للثورة، في حين أن هذه الهياكل القبلية قد تكون رفضت أو طردت الكثير من أبنائها، الذين انخرطوا في العمل الوطني، أو المقاوم للنظام. هذه الممارسة تكشف مفارقة مزدوجة: على المستوى الشخصي، يظهر هؤلاء الأفراد كما لو أنهم مستمرون في الدفاع عن الحرية والكرامة، بينما على المستوى المجتمعي، يُعاد إنتاج نمط قديم من الولاءات الضيقة، يُستخدم لتسويق السلطة القبلية، وتثبيت مواقع النفوذ داخل المجتمع. هذه المفارقة تبرز الحاجة إلى إعادة التفكير في دور القبيلة، بحيث تصبح رافعة للعدالة والانتماء الوطني، لا مجرد أداة سياسية.
من المؤسف أن بعض من يرفعون راية الثورة اليوم تحت لافتات قبائلهم يكررون أخطاء النظام القديم نفسه، مستغلين الهوية العشائرية للتأثير على السياسة والمناصب. ما يفعلونه هو تكريس لمحاصصة عشائرية وإثنية لا تقل ضررا عن الطائفية، إذ تقوم على تسييس الهوية ما قبل الوطنية واستثمارها سياسيا على حساب المصلحة العامة. السوريون قدّموا أكثر من مليون شهيد، لا ليعودوا إلى مربّع الطائفة أو العشيرة، بل لبناء دولة لا فضل فيها لشيخ أو زعيم عشائري، بل لمواطن متساوٍ في الحقوق والواجبات. ومن وجهة نظري، فإن استمرار الولاءات القبلية أو الطائفية الضيقة يهدد أي مشروع دولة مدنية حديثة تتساوى فيها جميع الفئات في الحقوق والواجبات، ويجعل تحقيق العدالة والمشاركة السياسية المتكافئة أمرا شبه مستحيل. الثورة السورية كانت مشروع قطيعة مع الماضي القائم على الولاء الضيق والخضوع المجتمعي.
ما نشهده اليوم من مؤتمرات عشائرية، أو تحالفات قبلية تحت غطاء الثورة هو ارتكاس إلى الوراء، ونسف لجوهر ما ناضل من أجله السوريون.
المطلوب اليوم ليس تسويق القبيلة من جديد، بل إعادة التفكير في دورها داخل مجتمع مدني حر، بحيث تكون رافعة للعدالة والانتماء الوطني، لا مجرد أداة في يد سلطة تبحث عن واجهات اجتماعية لتجميل استبدادها القديم بثوب جديد.
كاتب وباحث سوري
- القدس العربي

























