في ذكرى مرور سنة أولى على انهيار نظام «الحركة التصحيحية»، وفرار بشار الأسد، وتحرير العاصمة دمشق لتحتضن ساحةُ الأمويين عشرات آلاف السوريين المبتهجين المنعتقين من 54 سنة استبداد وقمع وقهر وفساد وتبعية وارتهان خارجي؛ ثمة الكثير الذي يُستعاد، على سبيل إحقاق حقوق التاريخ في المقام الأول. تضحيات السوريين الدامية الجسيمة بالطبع، ومئات آلاف ضحايا آلات القتل المدفعية والبراميلية والكيميائية، وعشرات آلاف المفقودين، وملايين المشردين داخل سوريا وأربع رياح الأرض، وخراب العمران السوري قديمه ووسيطه وحديثه…
وإلى جانب هذه الذاكرة، وسواها كثير من تفاصيل حاشدة حافلة، تستذكر هذه السطور جانباً خاصاً حمّال دلالات أخلاقية، لا ينأى أيضاً عن أبعاد مهنية وضميرية وفكرية وسياسية؛ هو مواقف نفر من الكتّاب والصحافيين في الولايات المتحدة وأوروبا، اصطفوا خلف نظام الأسدَين الأب والوريث، ونظّروا لتجميل جرائمه ومجازره وفظائعه على النحو الأسوأ والأردأ والأشد ابتذالاً، في آن معاً. وبين قبائح أفعالهم تلك ساعة انطلاق الانتفاضة الشعبية، ربيع 2011؛ ونظائرها ساعة الانهيار الختامي والفرار الفاضح يوم 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024؛ ثمة ما يستدعي التفضيح والتشهير، ليس من دون قسط الحدّ الأدنى من التحقير والتوضيع.
هم كثر بالطبع، واللائحة تشمل أمثال جوشوا لانديز مؤلف «عدسة على سوريا»، وألستير كروك مؤلف «مقاومة: جوهر الثورة الإسلاموية»، وفلنت ليفريت مؤلف «وراثة سوريا: بشار أمام اختبار النار»، ودافيد ليش مؤلف «أسد دمشق الجديد: بشار الأسد وسوريا الحديثة»؛ وجيمس دنسلو الذي اعتاد على الكتابة في صحف النظام، وبيتر هارلينغ من «مجموعة الأزمات الدولية». وقد يقتضي المقام التوقف عند اثنين منهم، ليس لأيّ اعتبارات تفضيلية تضع أحدهما في مرتبة أرفع من زميله في الابتذال؛ بل، أساساً ربما، لأنّ التنافس بينهما على التشويه والتحريف والتزييف كان أقرب إلى المسابقة كتفاً إلى كتف.
لانديز، من مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما الأمريكية، لا يُظلم كثيراً حين يُوصف بـ»ناطق باسم النظام السوري»، وحين يُمتدح أمريكياً (من جانب روبرت د. كابلان على سبيل المثال)، فلأنه خرج عن إجماع المراقبين الأمريكيين للوضع السوري عند انطلاق الانتفاضة الشعبية سنة 2011، وجزم بأنّ الأسد لن يسقط. كذلك انفرد لانديز في التأكيد بأنه لا يوجد «شعب سوري واحد» أساساً، وسوريا «منقسمة على خطوط دينية وإثنية وطبقية»؛ متكئاً على أصداء فريا ستارك الرحالة البريطانية/ الإيطالية، التي جالت في لبنان وسوريا والعراق أواخر عشرينيات القرن المنصرم!
وسلسلة تحليلاته الاستشراقية عن سوريا انطلقت إجمالاً من فرضية وجود حرب أهلية/ عدم وجود شعب سوري، فتراوحت بين تقسيم البلد إلى أربعة مراكز استقطاب: حكومة الأسد و»داعش» و»النصرة» والأكراد، أواخر سنة 2014؛ إلى تثبيت انتصار النظام، وإنْ بمساعدة التدخل الإيراني ونظيره التدخل الروسي، في سنة 2015؛ ثمّ تعاقب المؤامرات على ما تبقى من قوى عسكرية وأمنية في قبضة الأسد (بما في ذلك تكهنات بمحاولة انقلابية يقودها علي مملوك!)، في سنة 2018؛ وهكذا…
من جانبه، كان ليفريت خلال مراحل انحيازه الصريح لنظام الأسد الابن، قد دأب على طرح سلسلة حيثيات استشراقية ينهض معظمها على التجاهل الفاضح (وليس البتة الجهل) لحقائق الواقع السوري كما هي على الأرض، وفي دائرة الحياة اليومية، ومصائر الوطن، وعلاقة الحاكم والمحكوم، وطبائع القهر والفساد والنهب، وعواقب السياسات على البشر. وقارئ كتاب ليفرين العربي، فما بالك لقائه السوري، يخال أنّ المؤلف لا يتحدّث عن سوريا الراهنة دون سواها، بل عن بلد آخر لا استبداد فيه ولا وراثة حكم، ولا انتهاك لحقوق الإنسان وقمع لأبسط حرّيات المواطن، ولا مافيات نهب منظّم وتقاسم عائلي للمغانم والسلطة!
وهو بشّر الغرب بأنّ «بشار مقيّد، لكنّ القيد ليس اثنين أو ثلاثة من الجماعة المسنّين في أعلى الهرم، بل الأمر يخصّ النظام ذاته أكثر»؛ ولكن نظام «البيروقراطيين»، «العاديين»، «المتحجرين» حسب تعبيراته، وليس نظام تحالف الحرسَين القديم والجديد في ائتلاف الاستبداد والنهب والفساد والمافيات العائلية. أكثر من هذا، جزم ليفريت بأنّ بشار لا يقف مكتوف اليدين، وأنّ تسجيل النقاط يسير لصالحه في ميدانيين: التكنوقراط، و… زوجته السيدة أسماء الأخرس! ولقد لجأ إلى إحاطة نفسه بعدد من «التكنوقراط الذين يحملون شهادات عالية من الغرب، في حقول الاقتصاد وعلوم الكومبيوتر والأعمال، أو الذين لديهم خبرة في القطاع الخاص خارج سوريا أو مع البنك الدولي».
فإذا تابع المرء «تحليلات» هذا الثنائي، خلال الأيام القليلة بين 8 و15/11/2024، فإنّ عجائب البديع في فنون التكويع عن الآراء السابقة لهما سوف تجعل أفانين تكويع السوريات والسوريين أضحوكة، فلا دريد لحام بلغ شأوهم في الاستدارة 180 درجة، ولا ميادة حناوي نافستهم في توصيف مرحلة «صعبة» و»مظلمة». ذلك لأنّ تكويع لانديز وليفريت لم يقتصر على شيطنة الأسد نفسه، وأنه أهدر فرص الإصلاح والانفتاح العربي على نظامه وأساء قراءة متغيرات الإقليم والعالم من حوله، فحسب؛ بل استعار من بعض السوريين المقولة الاثيرة: ألم نقلْ لكم!
والأرجح أنّ حبل هذا البديع سوف يطول، لأنّ استشراقه طويل أصلاً؛ على جرّار دائب الحراك.
- القدس العربي


























