تواترت في السنوات الماضية دراسات ومقالات تناولت الهُويَّة الوطنية السورية، وكان محرّكها مفاعيل الثورة السورية التي اندلعت في منتصف مارس/ آذار 2001. واختلف أصحاب تلك الدراسات في تناولهم الوطنيةَ السورية بين من رآها منجزةً ومتكاملةَ الأركان، ومن اعتبرها في طور التشكّل وغير مكتملة، فيما اعتبر آخرون أنها لم تتشكّل بعد، وذهب أحدهم إلى حدّ إصدار أحكام ماهويّة لا تاريخية بحقّ غالبية السوريين، وإعلانه هزيمة الوطنية السورية، والحكم بانتهاء سورية، مطالباً بدفنها. وبخفّة غير معهودة، تنمّ عن كراهية وقلة احترام، دعا السوريين إلى السعي إلى مستقبل أفضل خارجها (أين؟)، ربّما حيث يقيم هو، محاولاً التمسّك بتلابيب أشباح ماركس.
تلتقي الدعوات المنادية بتشييع الهُويَّة الوطنية السورية والنيْل منها، مع طائفية متحمّسة لتقسيم البلاد والنيل من العباد، وكثير من العنفين، النفسي واللفظي، وارتفاع في حدّة لغتها وعدمية خطابها، إلى جانب المبالغة في انفعاليتها وتصلّبها ويقينيتها اللافتة التي لا تقبل الشكّ بيقينيتها وصوابها، مدّعية براءتها من العداء والتحيّز. والأدهى من ذلك كلّه، استهتارها الشديد بمشاعر غالبية السوريين، وعدم اكتراثها بالعواقب التي يمكن أن يحملها انحيازها المطلق.
جذور تاريخية
الملاحظ على معظم هذه الكتابات أنها تتناول الهُويَّة الوطنية السورية من وجهة نظر سياسية مباشرة، وتتعامل معها بوصفها منتجاً أو معطىً سياسياً بالدرجة الأولى، ولم تتطرّق إلى جوانبها الاجتماعية والثقافية والتاريخية التي أسهمت في تشكيلها ضمن حيّز جغرافي مُعيَّن، ولا إلى نسيج العيش المشترك والعادات والطقوس واللغة والذاكرة، فغابت جذور الهوية الوطنية السورية التي تمتد إلى القرن التاسع عشر، واستمرّت في النماء بعد العهد العثماني في سورية الانتدابية، وصولاً إلى ما بعد الاستقلال. وكانت نتاج ثقافة عيش مشترك، نشأت ضمن نطاق مسكوني من العلاقات والتفاعلات بين مجموعاتها السكّانية، من دون أن تفرض بالضرورة برنامجاً سياسياً محدّداً.
العروبة في المشرق لم تُبنَ على منطق الدولة الأمة العِرقي، بل على التعدد والتنوع
لم يجرِ التطرق إلى مفهوم العيش المشترك الذي يرتكز على قدرة الإنسان على تغيير طبيعته الاجتماعية الفِطرية، وتحويلها إلى طبيعة اجتماعية عقلانية وواعية، إذ إن التعايش يُبنى على قاعدة من التآنس والمحبّة، والتآلف والانسجام بين مكوّنات المجتمع، ويُعبّر عن الوفاق الممكن بين أفراده، وعن إنسانية تنهض على حقّ الاختلاف، والاحترام، والمحبّة، وعلى أساس من التآنس، والمودة، والألفة، وبما يجسّد شكل الوجود مع الآخر.
تميّزت المدونة السورية المكتوبة بافتقارها التام إلى مؤلفات تتناول الهُويَّة الوطنية السورية، إذ لم تتضمّن أيَّ مؤلّف بهذا الخصوص، لذلك يأتي كتاب محمود باكير، “هندسة الهُوية الوطنية… سورية المستقبل” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2025)، بوصفه أول مؤلف يتناول الهُويَّة الوطنية السورية، ويحاول بسط أوجهها ومركّباتها، والنظر في هندستها ضمن الكيان السوري المعاصر. ولا تكمن أهميته في هذا السبق فقط، بل في تناوله دور الهُويَّة الوطنية السورية في توحيد الأفراد تحت مظلّة قيم ومبادئ مشتركة، وعدم النظر إليها مجرّد مفهوم رمزي، بل في اعتبارها عاملاً أساسياً في بناء مجتمع قوي ومتماسك، إذ من خلال تعزيز الهُويَّة الوطنية يمكن للأمم تحقيق الاستقرار والتنمية والاعتزاز بالثقافة والتراث، وبما يسهم في بناء مجتمع متماسك، وقوي قادر على مواجهة التحدّيات.
يقتضي هذا النهج التركيز على العلاقات بين السوريين، جماعات وأفراداً، بدلاً من الالتفات إلى طبيعتهم وطباعهم، لأن التركيز في “العلاقة” يتلاقى مع مفهوم “البنية” في الرياضيات والفلسفة البنيوية، حيث العلاقات المتبادلة بين العناصر تُحدّد خصائص المجموعة، لا طبيعة العناصر نفسها. وبالتالي، لا تنبع الهُويَّة الوطنية من دراسة المكوّنات المجتمعية منفصلةً، بل من فهم طريقة تفاعلها وتكاملها، نظراً لأن “ظواهر الحياة الإنسانية لا يمكن إدراكها إلا من خلال علاقاتها المتبادلة”، حسبما ينقل المؤلف عن سيمون بلاكبيرن، ما يعني أن العلاقات تشكّل البنية الأساسية للمجتمع، لأنها تعكس مستوى الوعي الاجتماعي، وتشكل جزءاً من الهوية المجتمعية.
مقاربة “هندسة الهوية” بين العلمي والسياسي
لا يسعى محمود باكير إلى البحث في تاريخ الوطنية السورية الذي يمتد إلى أكثر من قرن ونصف قرن، إنما يبحث عن تعبيراتها وتجسيداتها، وفق مقاربة علمية رياضية، تتخذ الهندسةَ وسيلةً، وتلجأ إلى الطوبولوجيا (علم دراسة المكان) في تناول قضية شائكة وشديدة التعقيد، لكنّه يقع في المطبّ نفسه الذي وقع فيه معظم من كتبوا عن الهُويَّة السورية، الذين نظروا إليها من زاوية السياسة، وأغلقوا باقي الزوايا الثقافية والاجتماعية والتاريخية حين تناولوا الهُويَّة الوطنية، على الرغم من إقراره أهمية التناول الاجتماعي والثقافي للهُويَّة، التي تعبّر عن الرابطة الأكثر جمعاً بين السوريين، والعابرة لمختلف الانتماءات ما قبل المدنية من طائفية وإثنية وعشائرية وسواها. وربّما عاد الأمر إلى أن الطوبولوجيا التي تُعرّف أيضاً بأنها “هندسةٌ على سطوح مطاطية”، قابلة للانزلاق خلال بحثها في خصائص الأشكال الهندسية التي لا تتغيّر عندما تُطبّق عليها التحويلات المستمرّة من توابع أو دوال.
الأزمة السورية ليست دليلاً على تصحّر الهُويَّة الوطنية بقدر ما هي نتيجة منهجية لسياسات طويلة في تفكيك الدولة والمجتمع
المفترض باعتماد مقاربة فكرية علمية للهُويَّة الوطنية السورية ألا تنحو إلى الانزلاق نحو السياسي على حساب الاجتماعي والتاريخي، لأنها تستعين بأدوات التفكير العلمي والمنطقي التي تقترب من أسلوب التحليل الرياضي، كي يتمّ عبرها تعريف الانتماء والمواطنة في سياق علمي وعقلاني، فتُوجِّه القواعد العلمية في الطبيعة فهمَ الظواهر الاجتماعية بطريقة منهجية. إضافة إلى أن اللجوء إلى الرياضيات في دراسة الهُويَّة الوطنية يبرز موضوعيتها، ويبعد عنها الانحياز الإيديولوجي أو السياسي، من خلال التركيز في “الصورة المثلى” للظواهر المدروسة، عوضاً عن تراكم الحقائق المصطنعة والملفّقة. الغاية هنا دراسةُ هندسة الهُويَّة الوطنية بالابتعاد عن محاولات اختزالها في شعاراتٍ معيّنةٍ أو خلطها بانفعالات سياسية ظرفية، وتأكيد وجوب النظر إليها بوصفها بنية معرفية قابلة للهندسة، تتفاعل فيها مختلف العناصر الاجتماعية والثقافية والحساسيات الدينية ضمن علاقات متوازنة ومتّسقة، والتعامل معها مثلما يتعامل الرياضي مع منظومة معقّدة تسعى إلى الاتساق الداخلي، ما يعني أن النهج الهندسي للهُويَّة نهج فكري يقوم بتفكيكها وتحليلها وفق أدوات رياضية ومنطقية، وبما يمنحها وضوحاً وموضوعية، يتسق مع الحكمة التي تقدم الدليل على إتمام مشروع بناء الهُويَّة الوطنية بعيداً من التأثيرات السياسية والنعرات الإيديولوجية. وتنهض هندسة الهُويَّة الوطنية على فهم العلاقات الإنسانية والمجتمعية، وتطبيق أدوات عقلية جديدة لتمتين هذه العلاقات، وهو ما تحقّق في عدد من الدول، كالدول الإسكندنافية التي عزّزتها عبر منظومتها التعليمية، وعملت أنظمتها السياسية على اشتراك كل أبناء الوطن في قيم الانتماء، واتبعت سياسات مكّنتها من إدارة التنوّع، بوصفه أساساً لتعزيز الهُويَّة الوطنية في مجتمعاتها الحديثة.
تعود بدايات تعريف السوريين أنفسهم إلى المراحل المتأخّرة للحكم العثماني، وتجسّدت في الإحالة إلى انتمائهم العربي، حين كانت العروبة بمثابة ردّة فعل على الحركة القومية الطورانية في تركيا. وحمل أفكار النهضة العربية رجالٌ ونساءٌ من مختلف الجماعات الدينية والإثنية في الإقليم السوري والمنطقة، بالتضادّ مع أقرانهم في تركيا واليونان وبلغاريا، لأنها كانت، بحسب أسامة مقدسي، غير معنية بمنطق الدولة الأمة العِرقي، إنما بفكرة التعدّد والتنوّع، وتحويل مفهوم “الألفة” بين الجماعات إلى “العيش المشترك” ضمن النطاق الموحّد، إذ أسهمت العلاقات والتفاعلات الناشئة في إنتاج وعي مشترك، كان له دور كبير في حفظ السلام الاجتماعي وتماسك المجتمع، وانعكس ذلك في نمط الحياة المشكِّل للهُويَّة والثقافة والوعي الاجتماعي.
نحو رؤية جديدة
لا جدال في أن سورية الحديثة بحدودها الحالية هي نتاج الحالة الانتدابية الاستعمارية، التي ساهمت في ترسيخ الطائفية سياسياً، وقد ناهض سياسيون سوريون كثر هذه السياسة، واتخذوا اسم الكتلة الوطنية السورية، ليس بوصفه شعاراً سياسياً عابراً، ولا ورقة في سوق المساومات، بل كان عنواناً لتجربة وطنية تحريرية، أسّسها سوريون خرجوا من قلب الأمة السورية، وحملوا مشروع الدولة السورية والاستقلال. وبالنظر إلى حالة الاقتطاع التي عرفتها سورية الطبيعية، امتزجت الوطنية السورية بالقومية العربية، وصولاً إلى الوحدة مع مصر.
يمكن القول إن الهُويَّة الوطنية السورية، على المستوى السياسي، وقعت بين فكّي كماشة كلٍّ من النزعات القومية العربية المشدودة إلى حلم الوصول إلى أمة عربية واحدة، ونزعات الأمة الإسلامية التي لا تفرّق بين السوري وغير السوري إلا بالتقوى، ولا تنظر إلى الانتماء السوري إلا من وجهة دينية، الأمر الذي ساهم في إضعاف الهُويَّة الوطنية. ولم يكن الانتداب الفرنسي معنيّاً إلا ببسط سيطرته على سورية، فوجّه ضربةً للانتماء الوطني عبر تقسيمها بين خمس دويلات على أسس طائفية وإثنية ومناطقية، لكنّه اضطر إلى التراجع عن التقسيم. وبقيت القوى السياسية مشدودةً بعد الاستقلال إلى الدعوات القومية والأممية، وذلك على حساب الوطنية السورية. ولم تجد الوطنية السورية التربة الملائمة لنموّها الطبيعي ضمن دولة وطنية، وحين استولى انقلابيو حزب البعث على الحكم، بالغوا كثيراً في رفع شعارات قومية منفصلة عن الواقع. أما حين استولى حافظ الأسد على السلطة عام 1970، فقد وجّه ضربة قوية للوطنية السورية وللدولة السورية، من خلال نظام الاستبداد الذي بناه على مقاس بقاء آل الأسد إلى الأبد.
يبدأ المخرج من بناء دولة مواطنة متساوية، وترسيخ الانتماء والمواطن
غير أن الحكم بأن الأزمة الوطنية الكبيرة، التي عاشتها سورية خلال العقد المنصرم، كشفت مدى “تصحّر” الهُويَّة الوطنية السورية أو حجم “الأميّة الوطنية”، يحتاج إلى كثير من التدقيق، خصوصاً إذا لم يأخذ في الحسبان ما فعله نظام الاستبداد الأسدي، الذي حاول رسم الهُويَّة الوطنية السورية وفق صورة الأسد المستبدّ، واختصر الدولة بشخصه. وبالتالي، فإن ما عاشته سورية من أحداث دموية مؤلمة هو تحصيل حاصل لمساعي قتل الهُويَّة الوطنية وإبادة ناسها، وليس للتصحّر الوطني الموصوف بشكل مجرّد، لأن مثل هذا التوصيف المجرّد غايته التهرّب من الإقرار بتسمية أصل المشكلة، ولا يعطيه وجاهة القول إن الأزمة لم يُنظر إليها من منظور المسألة الوطنية السورية، وما تعيشه هذه الهُويَّة من مشكلات، وأن معظم الجهود خلال الأزمة اتجهت نحو الأعراض، ولم تلتفت إلى مسبّباتها الجوهرية. ذلك أن مثل هذا القول لا يتطرّق إلى ما فعله نظام الاستبداد بالدولة السورية وبالسوريين، ولا يستوي مع النظر إلى مفهوم الهُويَّة الوطنية باستخدام أدوات علمية لإبراز طابعه الفكري. كذلك لا تنفعه محاولات الهروب إلى الأمام عبر توظيف ضوابط المصلحة الشرعية في الفقه الإسلامي القائمة على ترجيح خير الخيرَيْن ودفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر.
خاتمة
تواجه الهُويَّة الوطنية في سورية، بعد سقوط نظام الأسد، تحدّيات كثيرة، تجسّدها دعوات التفتيت والتقسيم والانفصال، لكن الرهان لا يزال معقوداً على مقاربة مختلفة للهُويَّة الوطنية السورية في مرحلة ما بعد نظام الأسد، من خلال العمل على تعزيز قيم التعايش المشترك، وتمتينها وفق مبدأ إشراك الجميع في مفاصل الحكم، وبناء دولة المواطنة المتساوية، والاستعانة بأدوات التفكير العلمي والمنطقي من أجل وضع منظومة تعليمية يُرسَّخ عبرها تعريف الانتماء والمواطنة في سياق علمي وعقلاني.
- العربي الجديد


























