
عندما يطرح سؤال الأولويات في الحالة السورية خلال الأعوام الخمسة المقبلة تبرز إعادة بناء البنية الاجتماعية بوصفها المهمة الأكثر جوهرية واستدامة، فالأزمة السورية في عمقها، لم تكن أزمة حكم فحسب بل أزمة مجتمع جرى تفكيك مفاصله تدريجيًا حتى بات عاجزاً عن التأثير في مساره العام أو إنتاج أدواته الذاتية للدفاع عن مصالحه الوطنية، فكان خيار الثورة .
في صورته السليمة لا يختزل المجتمع في السلطة أو فيمن يتولى الحكم، بل يقوم على جماعات اجتماعية وسيطة متماسكة تتمتع بقدر من الاستقلالية وتنطلق من هوية ثقافية وطنية جامعة. تاريخياً لم يكن سر صمود المجتمعات واستمرارها هو ثبات المنظومات الحاكمة بل رسوخ هذه البنى الاجتماعية من القاعدة إلى القمة. ففي التجربة الإسلامية وعلى امتداد قرون طويلة ظلّ المجتمع متماسكاً رغم تعاقب الدول والسلالات( الأمويين، العباسيين…..) لأن مفاصل المجتمع الأساسية -من العلماء ومؤسساتهم إلى التجار والقضاء والمؤسسة العسكرية وغيرهم- لم تكن مجرد أدوات بيد السلطة بل قوى اجتماعية حيّة قادرة على الاستمرار والتجدد، وعند الأزمات الكبرى أو التحديات الوجودية كانت هذه الجماعات تفرز قيادات جديدة وتعيد إنتاج المجال السياسي فتتغير النخب الحاكمة دون أن ينهار المجتمع.
غير أن التحوّل الجذري الذي بدأ في أواخر العهد العثماني واستكملته أنماط الدولة المركزية الحديثة أدى إلى تفكيك تلك الأعمدة الاجتماعية وأحدث قطيعة عميقة بين المجتمع والسياسة ومع تهميش الفاعلين الاجتماعيين وإقصائهم عن الشأن العام وجد المجتمع نفسه عند انهيار المنظومة الحاكمة في أعقاب الحرب العالمية الأولى عاجزاً عن إنتاج بدائل قيادية أو مشاريع جامعة كما فعل سابقاً، وقد استمر هذا الفراغ البنيوي قرابة قرن من الزمن لتدفع شعوب المنطقة كلفته السياسية والاجتماعية حتى اليوم.
في الحالة السورية الراهنة لا يمكن القفز فوق هذه الحقيقة، فالمجتمع المدني لا يزال هشّاً أو أسير أجندات أو منفصلاً عن الثقافة الاجتماعية المحليّة ما يجعله عاجزاً عن تمثيل المجتمع تمثيلاً حقيقياً أو أداء دور فاعل في إعادة بناء المجال العام. المشكلة هنا ليست في فكرة المجتمع المدني بحد ذاتها إنما في الشكل والمضمون والوظيفة.
ولا يقتصر هذا الاستنتاج على التجربة السورية أو الفكر العربي الإسلامي وحده؛ فقد نبّه مفكرو علم الاجتماع السياسي إلى أن الدولة لا تكون حارسة للحرية ولا منتجة للشرعية إلا بقدر ما يستند حكمها إلى مجتمع حيٍّ ومنظم، فالجمعيات والروابط الاجتماعية تشكل مدرسة للفعل العام وتحمي المجتمع من الاستبداد بينما يؤدي تفكك الجماعات الوسيطة إلى فراغ أخلاقي وسياسي لا تملؤه السلطة إلا بالقسر. كما أن الصراع الحقيقي على السلطة في جوهره يبدأ من المجتمع حيث تصاغ القيم وتبنى التصورات وتتشكل موازين التأثير قبل أن ينتقل إلى مؤسسات الحكم.
من هذا المنطلق فإن أولوية المرحلة السورية المقبلة لا تكمن في إعادة ترتيب السلطة فقط إنما أيضاً في إعادة بناء مجتمع فاعل قادر على التفاعل مع الشأن العام وإعادة تشكيل جماعات اجتماعية صلبة منسجمة مع ثقافتها ومنطلقة من أجندة وطنية مستقلة، مجتمع يمتلك وعياً سياسياً بالمعنى الواسع أي وعياً بالمصلحة العامة وبأولويات كل مرحلة وبحدود الممكن والمطلوب لا وعياً حزبياً ضيقاً أو تعبوياً عابراً.
لذلك أرى أن التحدي الحقيقي خلال السنوات الخمس القادمة يتمثل في بلورة مجتمع مدني ناضج لا وفق قوالب جاهزة أو نماذج مستوردة إنما كمجموعات اجتماعية قادرة على إنتاج قيادة اجتماعية وسياسية قابلة للمساءلة، وعلى خلق توازن صحي بين المجتمع والدولة وعلى تعزيز الاستقرار الاجتماعي بوصفه شرطاً لا غنى عنه لأي استقرار سياسي لاحق.
ومع ذلك فإن بلورة صورة المجتمع المنشود لا تكفي بذاتها، فالتحدي الأخطر يكمن في مسار العبور من واقع اجتماعي مفكك تعرض لتشويه ثقافي عميق واستبداد سياسي طويل إلى ذلك النموذج المنشود، وهذا الانتقال لا يمكن أن يكون تلقائياً أو اندفاعياً لذلك يتطلب مقاربة تدريجية محسوبة وحذرة إلى أبعد الحدود.
لأن من أخطر ما قد تواجهه أي مرحلة انتقالية هو نشوء جماعات اجتماعية جديدة على أسس غير وطنية أو وفق أفكار لا تنسجم مع الثقافة السورية وسياقها التاريخي، فمثل هذا التشكل لا يمثل تجاوزاً للتشوه السابق بل يعيد إنتاجه بصيغة أكثر تعقيداً، وقد يفتح الباب أمام ما يمكن وصفه بانقلاب اجتماعي ناعم يعيد الاستبداد من بوابة المجتمع نفسه لا من بوابة السلطة وحدها.
من هنا تبرز الحاجة الملحة إلى خطة استراتيجية دقيقة المعالم، تنطلق من فهم عميق لبنية المجتمع السوري وحساسيته الثقافية وتجربته المريرة مع التسييس القسري والهويات المفروضة، خطة لا تهدف إلى القفز فوق الواقع ولا إلى تصنيع مجتمع جديد على عجل، خطة تهدف إلى ترميم النسيج الاجتماعي تدريجياً وإحياء الجماعات الطبيعية الكامنة
- الثورة السورية






















