يوجّه الباحث الأميركي تشارلز ليستر عبر The Times of Israel رسالة غير مسبوقة إلى صانعي القرار في تل أبيب، ويدعوها إسرائيل صراحةً إلى مراجعة سياساتها تجاه دمشق ووقف المقاربة العسكرية التي ورثتها عن عهد الأسد، مؤكداً أن ما يجري اليوم في سوريا لم يعد قابلاً للتعامل بالأدوات القديمة، وأن فرصة تاريخية تتشكل أمام المنطقة كلها.
ويُقرّ ليستر بأن التحول السوري، من حكومة انتقالية واسعة التمثيل إلى انفتاح دولي غير مسبوق، فرض معادلة جديدة لا يمكن تجاهلها. فإيران تنسحب، وحزب الله يتراجع، والأجهزة السورية الجديدة تنخرط في تعاون أمني واسع مع الولايات المتحدة، في تغير هو الأكبر من نوعه منذ عقود. ورغم ذلك، يلاحظ الكاتب أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم تقريباً التي ما تزال تتصرف وكأن سوريا تعيش في زمن آخر، مستمرة في الغارات وعمليات التوغل التي يرى أنها لم تعد تخدم أي مصلحة استراتيجية.
ويحضّ ليستر إسرائيل على الالتحاق بالمسار الدولي الذي فتح باب الاستثمار في استقرار سوريا، والدخول في مفاوضات أمنية ترعاها واشنطن، استناداً إلى اتفاقية فصل القوات لعام 1974 التي أعلنت دمشق استعدادها لاحترامها. ويذهب الكاتب إلى التحذير من أن تجاهل إسرائيل لهذه اللحظة سيحوّلها إلى الدولة الوحيدة التي تضيع المكاسب المحتملة من سوريا ما بعد الحرب، معتبراً أن الوقت حان لتعامل براغماتي يعترف بالواقع الجديد بدل الاستمرار في سياسة القوة وحدها.
فيما يلي ترجمة المقالة كاملة:
لمدة تجاوزت الخمسين عاماً، بقيت سوريا درة التاج في أجندة إيران الخبيثة تجاه المنطقة، تلك الأجندة القائمة على العدوان والتوسع. وبعد أن أمضت أكثر من عقد وهي تستثمر المبالغ طائلة والأسلحة والآلاف من المقاتلين لدعم وتثبيت نظام بشار الأسد في الحكم، خسرت إيران أصولها الأغلى في غضون عشرة أيام أواخر عام 2024. وخلال الأيام التي سبقت كل ذلك، خسرت إيران هي وحزب الله كثيراً من المقاتلين على الجبهات، ومع سقوط نظام الأسد، سارعت إيران وأذرعها لسحب كل قواتهم على عجل إلى الجارين لبنان والعراق، بالإضافة إلى سحبهم نحو إيران نفسها.
وسوريا التي تقف اليوم هي نفسها التي تواجه تحديات بنيوية واجتماعية وطائفية وأمنية واقتصادية كبيرة، فتلك الأمور ليست مجرد نتاج لنزاع امتد قرابة 14 عاماً، بل إنها تمثل أيضاً ثمن أكثر من نصف قرن من حكم آل الأسد الفاسد الطائفي القمعي الذي يفتقر إلى أي كفاءة. وفي الوقت الذي يقود الحكومة الانتقالية السورية من بقي من الحركة الجهادية بعد أن صلح حالهم، فإننا خلال العام الفائت شهدنا تشكيل حكومة مؤقتة مثل فيها وزراء التكنوقراط القادمون من الشتات السوري في الولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج نسبة الأغلبية التي وصلت إلى 80% في الوزارات.
في غضون أقل من سنة، استقبلت الحكومة السورية المؤقتة في دمشق مسؤولين في زيارات رسمية مثلوا معظم حكومات دول العالم، ففاق الزوار بعددهم كل من استقبلهم آل الأسد طوال 53 عاماً من حكمهم. وبما أن سوريا قد تعرضت لأكبر وأصعب نظام عقوبات منذ عام 1979، فقد رفعت العقوبات عنها اليوم بسرعة قياسية، إذ لم يسبق في تاريخ العالم بأسره أن شهدت دولة خرجت لتوها من نزاع ما شهدته دمشق من سرعة وحجم حالة التهافت عليها.
الدولتان المعاديتان لسوريا الجديدة
والسبب الكامن خلف موجة التعامل الكبيرة مع هذه الحكومة يتلخص بالفرصة التاريخية التي يمثلها التغيير في سوريا، إذ لفترة طويلة من الزمان بقيت عبارة: :ما يحدث في سوريا لن يبق في سوريا” مرتبطة بمخاوف أمنية عديدة، إلا أن الوعد بقلب تلك المعادلة رأساً على عقب، والخروج بآثار لطيفة إيجابية متتابعة تنطلق من سوريا يعد السبب الذي وحد العالم عليها، ابتداءً من الولايات المتحدة، وصولاً إلى روسيا والصين وكل ما بينها من دول. إلا أن لهذا التوجه استثناءين نادرين، ففي مفارقة مؤسفة، لم تتخذ أي دولة موقفاً مناهضاً للعملية الانتقالية في سوريا سوى دولتين: هما إسرائيل وإيران.
أولاً: إيران
إن ما يدفع إيران لمعارضة سوريا بعد الأسد ليس بغريب، لكونها تسعى لإنقاذ ما خسرته، إذ بالشراكة مع حزب الله، عملت إيران بشكل دؤوب على زعزعة الاستقرار في سوريا الجديدة عبر دعم أي حالة تمرد فيها، أي أن معظم حالات التمرد التي ظهرت ترجع أصولها لفلول الفرقة الرابعة، الشريكة السورية لإيران طوال فترة طويلة من الزمن. ولكن إيران عبر قيامها بذلك، وقفت ضد حكومة انتقالية سورية واجهت بكل حزم فلول العساكر والميليشيات الإيرانية.
من خلال حملة مستمرة شملت البلد، صادرت قوات الحكومة السورية كميات هائلة من الأسلحة التي انتزعتها من العناصر الفاعلة المرتبطة بإيران، ومعظم تلك الأسلحة كانت معدة للتهريب حتى تصل إلى حزب الله في لبنان. وبحسب وقائع موثقة نشرت للعامة سجلتها نشرة سيريا ويكلي الرقمية الأسبوعية، فإن سوريا ضبطت خلال الأشهر العشرة الماضية أكثر من أربعة آلاف قطعة سلاح مرتبطة بالنشاط التابع لإيران، ضمت:
- 910 قذيفة هاون
- 721 لغماً أرضياً
- 614 بندقية
- 496 صاروخ غراد
- 461 دبابة أو قذيفة مدفعية
- 285 مقذوفاً صاروخياً
- 280 قذيفة مضادة للدبابات
- 148 صاروخاً مضاداً للدبابات
- 99 رشاشاً
- 11 منظومة محمولة للدفاع الجوي
- 4 قاذفات قنابل آلية
ولو عبرت تلك الأسلحة بنجاح إلى لبنان، لكان حزب الله أفضل حالاً بكثير مما هو عليه اليوم.
في الوقت الذي تمت معظم عمليات المصادرة هذه بناء على معلومات أولية قدمتها المخابرات العامة بسوريا وكذلك وزارة الداخلية، فإن بعضها تم بفضل معلومات قدمتها الولايات المتحدة، ما يعني بأن العلاقة الأمنية بين الولايات المتحدة وسوريا قد تطورت بشكل سريع خلال الشهور الماضية.
في أيار 2025، وصلت حزمة من المعلومات الاستخباراتية الأميركية إلى دمشق بخصوص وجود شبكة واسعة من الأنفاق والمقار ومخازن الأسلحة التابعة للحرس الثوري الإيراني بمحيط مدينة البوكمال في المنطقة الشرقية بسوريا. وبعد أيام على ذلك، دهمت قوات وزارة الداخلية السورية تلك المواقع وصادرت كل الموجودات في تلك المقار واحتجزت كل من فيها ضمن ما وصفه أحد المسؤولين الأميركيين بـ”عملية تغيير قواعد اللعبة”، ومنذ ذلك الحين، نفذت القوات السورية والأميركية ما لا يقل عن ست مداهمات لمواقع تعود لتنظيم الدولة الإسلامية (قتل في أحدها زعيم كبير للتنظيم في سوريا)، إلى جانب المداهمات التي طالت عدداً من المقار التابعة لإيران. ولهذا فإن الولايات المتحدة لم تطلب من سوريا الانضمام إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة من باب المجاملة، بل فعلت ذلك بعد أشهر من التعاون الناجح بينهما والذي أسفر عن نتائج لم يكن أحد يحلم بها أيام كان الأسد في السلطة.
ثانياً: إسرائيل
وهذا ما يجعل الموقف العدائي الإسرائيلي تجاه سوريا الجديدة محيراً ومثيراً للسخط والاستياء أيضاً، ولا شك أن ذلك يعود للتاريخ الإشكالي للقيادة السورية الجديدة، بيد أن هذه القيادة نفسها هي من حمل غصن السلام لجارتها إسرائيل منذ الأيام الأولى لوصولها إلى دمشق. كما أن تحركاتها الحازمة ضد إيران وغيرها من مصادر زعزعة الاستقرار في المنطقة باتت واضحة وضوح الشمس. في حين احتلت القوات الإسرائيلية في كانون الأول 2024 مئتي كيلومتر مربع من الأراضي السورية، ومنذ ذلك الحين، تعرضت سوريا لما يقرب من ألف غارة جوية إسرائيلية، ناهيك عن عمليات التوغل البري التي تجاوزت الستمئة. وطوال تلك الفترة كلها، كان أشد رد أبدته سوريا هو رفع شكاوى رمزية ضد إسرائيل إلى مجلس الأمن.
إذاً، حان الوقت لتنضم إسرائيل إلى بقية دول العالم لتقوم بما دعا إليه الرئيس دونالد ترمب في مرات عديدة، وهو إعطاء سوريا فرصة، لأن حجم التحديات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تواجهها سوريا في الداخل كبير بحق، ولكن مع الدعم الأميركي والأوروبي والروسي والصيني، تمكنت سوريا من تحقيق تقدم كبير خلال فترة قصيرة من الزمن. ولهذا، إن كانت أمام العالم أية فرصة لحصد المكاسب في حال استقرار سوريا، عندئذ يجب على إسرائيل أن توقف عملياتها العسكرية ضدها وأن تعود للمشاركة في المفاوضات التي تتم بوساطة أميركية. إذ لطالما بقيت سوريا وإسرائيل على خلاف، غير أن التوجه نحو السلام يجب أن يبدأ بالتوقيع على اتفاقيات أمنية أولاً. فلأول مرة في تاريخها، ألمحت سوريا إلى رغبتها بتنفيذ بنود اتفاقية وقف إطلاق النار الموقعة في عام 1974 بين البلدين لتكون تلك الاتفاقية أساس العلاقة الجديدة بين سوريا وإسرائيل. ومع الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة لضمان أمن البلدين، لم يعد هنالك أي مبرر لقيام علاقة قائمة على الثقة المشروطة بالتحقق المستمر بين الطرفين.
وعليه، فإن إضاعة هذه الفرصة ستتحول إلى خطأ تاريخي.
المصدر: The Times of Israel
- تلفزيون سوريا
























