تحوّل المقاربة الأميركية: من أزمة مفتوحة إلى ملف قابل للاحتواء
لا يمكن التوقف عند فقرة الشرق الأوسط في إستراتيجية الأمن القومي الأميركية لعام 2025 دون التمعن في الصيغة التي خصصت لسوريا، ليس بسبب طولها أو تفصيلها، بل لأنها تعكس بوضوح تحولا نوعيا في مقاربة واشنطن لهذا الملف الذي لطالما شغل موقعا إشكاليا في الحسابات الإقليمية والدولية.
العبارة التي وردت في الوثيقة، والتي تصف سوريا بأنها “مشكلة محتملة”، يمكن أن تستقر بدعم أميركي وعربي وإسرائيلي وتركي، لا تقرأ بوصفها توصيفا عابرا، بل كإطار سياسي جديد ينزل الملف السوري من مرتبة الأزمة المفتوحة إلى خانة الملف القابل للإدارة ضمن توازنات أوسع.
هذا التحول في اللغة يعكس قبل كل شيء تبدلا في الأولويات الأميركية. فواشنطن لم تعد تنظر إلى سوريا باعتبارها تهديدا مباشرا للأمن القومي الأميركي يستدعي تدخلا واسعا أو مشروعا سياسيا تقوده بنفسها، لكنها في الوقت ذاته لا ترى مصلحة في تركها ساحة مفتوحة للفوضى أو للصراعات بالوكالة.
توصيف سوريا بأنها “مشكلة محتملة” لا يعني أن الواقع على الأرض تحسن بصورة جوهرية، بل يعني أن الولايات المتحدة قررت إعادة تصنيف المخاطر، ووضع الملف السوري في مستوى أدنى من الاستعجال، مقارنة بملفات أخرى أكثر إلحاحا، مع الإبقاء عليه تحت سقف الاحتواء.
في هذا السياق، يصبح الهدف الأميركي الأساسي هو منع الانفجار لا إنتاج الحل. الاستقرار هنا لا يفهم بوصفه تسوية سياسية شاملة أو إعادة بناء للدولة وفق نموذج جديد، بل كحد أدنى من التوازن يسمح بتجميد الصراع وضبط تداعياته الإقليمية.
هذه المقاربة البراغماتية تنسجم مع اتجاه عام في السياسة الأميركية يقوم على تقليص الانخراط المباشر، وتفويض الأدوار إلى الشركاء الإقليميين، مع الاحتفاظ بدور الضابط العام للإيقاع.
لا تسعى واشنطن إلى إعادة تعريف سوريا سياسيا، بل إلى جعلها “قابلة للتعامل”، وهذا يتسق مع فلسفة “نقل الأعباء” التي باتت تشكل جوهر الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط
إدارة التوازنات الإقليمية وحدود الاستقرار المفروض
اللافت في الصيغة الواردة في الإستراتيجية ليس فقط توصيف سوريا، بل الجهات التي تناط بها مهمة دعم استقرارها. إدراج الولايات المتحدة والدول العربية وتركيا وإسرائيل في معادلة واحدة، يعكس نظرة أميركية ترى في سوريا عقدة توازنات إقليمية، لا ملفا إنسانيا أو أمنيا معزولا.
فواشنطن تفترض أن أي استقرار ممكن في سوريا لا يمكن أن يتحقق عبر مسار داخلي مستقل، بل عبر تفاهمات متوازية بين أطراف متعارضة المصالح، يجمعها هدف مشترك هو منع الانهيار الشامل.
ضمن هذا التصور، يفهم الدور العربي باعتباره قناة لإعادة إدماج سوريا في محيطها الإقليمي، وفق شروط سياسية وأمنية جديدة، تخفف من عزلتها دون أن تمنحها شيكا على بياض.
أما الدور التركي فيرتبط بالاعتبارات الحدودية والأمنية وبضبط التوازنات شمال سوريا، فيما ينظر إلى الدور الإسرائيلي بوصفه عاملا حاسما في تكريس معادلات الردع، ومنع تحول الساحة السورية إلى منصة تهديد مباشر. وفي خلفية هذه الأدوار، تحتفظ الولايات المتحدة بموقع إدارة السقف السياسي العام، ومنع أي مسار من الانفلات خارج خطوطها الحمراء.
هذا الإطار يضع سوريا أمام معادلة دقيقة. فهي إما أن تبقى موضوعا لهذه التفاهمات، تدار وفق مصالح الآخرين وتوازناتهم، أو أن تنجح تدريجيا في التحول إلى طرف فاعل قادر على التأثير في شروط الاستقرار، لا مجرد التكيف معها. غير أن الإستراتيجية الأميركية لا تظهر اهتماما حقيقيا بكيفية تحقيق هذا التحول داخليا، بقدر ما تركز على النتائج السلوكية المطلوبة من الدولة السورية.
الحديث عن “استعادة المكانة المستحقة كلاعب إيجابي ومتكامل” لا يحمل في طياته وعدا بإعادة بناء شاملة أو تحول سياسي جذري، بل يشير إلى دور وظيفي محدد في النظام الإقليمي. سوريا المطلوبة أميركيا هي دولة مستقرة بالحد الأدنى، مندمجة في محيطها، وغير مهددة للتوازنات القائمة. الإيجابية هنا تقاس بمدى الامتناع عن تصدير الفوضى، وبالقدرة على منع تحول الأرض السورية إلى مساحة نفوذ لقوى معادية، وبالاستعداد للانخراط في شبكات إقليمية اقتصادية وأمنية تخدم الاستقرار العام.
بهذا المعنى، لا تسعى واشنطن إلى إعادة تعريف سوريا سياسيا، بل إلى جعلها “قابلة للتعامل”. وهذا يتسق مع فلسفة “نقل الأعباء” التي باتت تشكل جوهر الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.
الولايات المتحدة لا تعرض قيادة حل شامل، ولا تطرح رؤية تفصيلية لمستقبل الحكم أو الدولة، بل تضع إطارا عاما يسمح للآخرين بتحمل الكلفة الأساسية، بينما تكتفي هي بإدارة التوازنات ومنع الانزلاق إلى الأسوأ.
غير أن هذا النوع من الاستقرار، القائم على تفاهمات خارجية وضبط متبادل للمصالح، يظل استقرارا هشا ما لم يترافق مع مسار وطني يعالج جذور الأزمة. تجميد الصراع قد يوقف النزيف، لكنه لا ينتج دولة قادرة على الصمود طويلا دون إعادة تعريف للعقد السياسي والاجتماعي.
إدراج سوريا بهذه الصيغة في إستراتيجية الأمن القومي الأميركية لا يعني أن الحل بات قريبا، بل يعني أن مرحلة جديدة من إدارة الملف قد بدأت. نافذة فتحت، لكنها محاطة بقيود واضحة.
في هذه اللحظة، لا يقاس مستقبل سوريا بما يكتب عنها في الوثائق الدولية، بل بقدرتها على الانتقال من كونها موضوعا لتفاهمات الآخرين إلى شريك فيها.
ففي عالم تعاد فيه صياغة الأولويات، الدول التي لا تعيد تعريف نفسها، يعاد تعريفها بالنيابة عنها. وسوريا اليوم أمام خيار مفصلي: إما استثمار هذا التحول لبناء مشروع وطني جامع يعيد لها مكانتها الفعلية، أو البقاء في خانة “المشكلة المحتملة” التي تدار ضمن خرائط الآخرين لا ضمن إرادتها الخاصة.
- الجزيرة نت



























