استقبل الشرع يوم الاثنين وفداً تركياً يضم وزيري الدفاع والخارجية ورئيس المخابرات. وبالطبع لهذا الثلاثي التركي دلالة تتعلق بقضايا الأمن القومي، وزيارته دمشق متصلة إلى حد كبير بمصير مناطق الإدارة الذاتية الكردية في شمال شرق سوريا. أيضاً لا يخفى ارتباط توقيت الزيارة بالموعد المحدد لاندماج منظومة الإدارة الذاتية “مسد”، وقوات سوريا الديموقراطية “قسد”، ضمن مؤسسات السلطة المركزية. فالموعد قد انقضى عملياً من دون التقدم نحو تطبيق اتفاق العاشر من آذار بين الشرع ومظلوم عبدي. وتريد أنقرة بزيارة وفدها تحذير المنظومة الكردية من مغبّة عدم الالتزام بالاتفاق المذكور الذي يقضي بحلّها.
في الأصل أُشيع أن أنقرة لم تكن راضية تماماً عن اتفاق العاشر من آذار الذي أُبرِم برعاية أميركية، ولا شك في أنها ستكون غاضبة من عدم تنفيذ الاتفاق الذي يلبّي الحد الأدنى من مطالبها. ومن المعلوم أن كظم الغضب التركي إزاء منظومة الإدارة الذاتية مردّه الحماية الأميركية التي تحظى بها الأخيرة، وهي قائمة على التحالف ضد تنظيم داعش، حيث كانت قسد هي الذراع العسكرية المساندة على الأرض للقوة الجوية والاستخباراتية الأميركيتين.
من وجهة نظر التصدي لداعش، يمكن القول إن التحالف الجديد بين دمشق وواشنطن لم تُختَبر فعاليته بعد، إذ لم تمضِ سوى مدة قصيرة جداً على إبرامه. بل يجوز الاعتقاد بأن التحالف بين الطرفين هشّ، وتكتنفه المخاوف من أن الطبيعة الأيديولوجية لسلطة الشرع تسمح بتغلغل أفراد من داعش، وحادثة إطلاق النار على موكب مشترك في تدمر أتت كجرس إنذار في أوساط العاصمة الأميركية من أن تنظيم داعش ربما يكون قد اخترق بعض الدوائر الأمنية لهيئة تحرير الشام الحاكمة.
من المرجّح، عطفاً على المخاوف الاستخباراتية الأميركية، ألا يكون دمج قسد في قوات وزارة الدفاع موضوعاً في قائمة التنفيذ؛ على الأقل ضمن السنة المقبلة قد لا تكون واشنطن راغبة في طي ملفّ قسد. وفوق الهواجس الأمنية المذكورة، قد لا تكون دوائر صنع القرار الأميركية راغبة في تقديم كل شيء للشرع، خصوصاً بعد تعليق العقوبات الأميركية على سوريا، القديمة منها والأحدث نسبياً. بمعنى أن الإدارة الأميركية قد لا تكون مستعجلة لتقديم هدية إضافية، من قبيل التخلي نهائياً عن ورقة قسد.
يعزز من الظن السابق أن تل أبيب أيضاً غير راضية عن مسارين، أولهما التعليق التام للعقوبات، وثانيهما دمج الإدارة الذاتية وقسد ضمن مؤسسات المركز. ولتل أبيب أيضاً حسابات مزدوجة على هذا الصعيد، فهي لا تريد تقوية السلطة الجديدة بالتنازل عن أوراق الضغط الأميركية عليها، ولا تريد لأنقرة أن تستفيد من إزاحة قسد في الشمال الشرقي في ظل التنافس بينهما على وراثة النفوذ والتأثير في سوريا بعد أفول النفوذين الإيراني والروسي.
ومن المرجَّح أن إسرائيل، عبر مؤثِّريها في واشنطن، ستضغط من أجل بقاء قسد في الشمال، وقد تلقى تجاوباً أميركياً بعد أن وفا ترامب بوعد إزالة العقوبات عن سوريا. وفي حال لم تفلح الضغوط الإسرائيلية من المحتمل جداً أن تسعى تل أبيب إلى مقايضة، من خلال مطلب مطروح بمعزل عن ملف قسد، فتصرّ على منطقة منزوعة السلاح من جنوب دمشق حتى خط الهدنة لعام 1974، وتحقيق المطلب الإسرائيلي يتضمن بقاء السويداء خارجة عن سيطرة المركز.
منذ توقيع اتفاق آذار إلى الآن لم يحدث تقارب عملي بين السلطة والإدارة الذاتية أو قسد، والتصريحات ذات اللغة الدبلوماسية الصادرة عنهما خلال الشهور الفائتة لا تعكس تقدماً فعلياً، ولا تعكس أيضاً النوايا والنظرة الحقيقية لكل طرف منهما إلى الآخر. فالطرفان محكومان بالقرارات الخارجية، ولا يتصرفان إطلاقاً بمعزل عنها، وحتى التصريحات القليلة التي توحي بأن الاتفاق لم يمت أتت في حينها بضغط من المبعوث الأميركي إلى سوريا. لذا لم يحدث أي تقدّم نحو الشراكة، وبقيت نوايا السلطة وقسد غير واضحة، وكذلك هي نوايا الخارج.
ومن المحتمل جداً، ضمن هذا الغموض الذي لا يزال سارياً، السير نحو النموذج الذي كان مطروحاً تطبيقه في السويداء؛ أي أن تكون لدمشق سلطة مدنية على حساب الإدارة الذاتية الكردية الحالية، مع مراعاة بقاء نسبة وازنة من الوظائف العامة على حالها. الأهم هو الوصول إلى صيغة تقاسم للنفط والغاز ضمن مناطق تواجد قسد، فلا يخفى تلهّف السلطة إلى الحصول على عائدات النفط وهي تعاني آثار اقتصاد منهار، وفي المقابل لا تخفى حاجة قسد للحصول على حصة من العائدات تغطّي نفقات مقاتليها وعتادها، فالمساعدات الأميركية لقسد لا تغطّي نفقات المنظومة التي تتجاوز التصدي لداعش.
التنفيذ الجزئي لاتفاق آذار سيشير إلى استمرار فترة اختبار النوايا حتى إشعار آخر، وهذه إشارة وردت صريحة في تعليق عقوبات قيصر، حيث نصّ التعليق على إمكانية العودة عنه إذا لم تلتزم دمشق بالعديد من الالتزامات. ووضعية الاختبار، مع ما يتفرع عنها شمالاً وجنوباً، تعمل على الضد من الإعفاء من العقوبات، لأن الإعفاء يترافق مع عدم اليقين إزاء المستقبل، وسيكون من الصعب التنبؤ بقدوم استثمارات ذات تأثير نوعي طالما لم يكن الأفق واضحاً تماماً. والوضعية ذاتها تضع الكلام عن نجاحات خارجية استثنائية في إطاره الواقعي، بما أن قوى الخارج المنخرطة في سوريا أذكى من أن ترمي أوراقها دفعة واحدة مقابل حفنة من الوعود.
بعد ساعات ليس إلا من وصول الوفد التركي إلى دمشق اندلعت اشتباكات عنيفة في مدينة حلب بين قسد وقوات تابعة للسلطة. وهذه بالتأكيد ليست مصادفة. ربما يكون التصعيد رداً على الزيارة، وقد يكون أيضاً من نتائجها. في كل الأحوال ليس هناك في الأفق القريب ما يفيد بأن يصبح الموضوع الكردي شأناً داخلياً قبل أي اعتبار آخر، أو شأناً داخلياً على قدم المساواة مع تأثيرات الخارج، وهو ما يحرم أي تسوية مؤقتة من أن تكون راسخة مبنية على الثقة التي تمهّد بدورها للتقدم في سبيل الحل الدائم، بما فيها التسوية التي تنص على دمج مسد والإبقاء على قسد.
بعد أكثر من سنة على سقوط الأسد، يمكن بسهولة الجزم بأن الحدود بين جماعة السلطة الحالية ومنظومة الإدارة الذاتية قائمة وراسخة أكثر من قبل. المناخ السائد يمهّد للاقتتال والعنف، والسلام منذ شهور كان مفروضاً بقوة الخارج، لكن لا يُستبعد منه أن يلبّي أو أن يستثير استعدادات الداخل الكارثية.
- المدن



























