عندما يتهم مسؤول أميركي “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بأنها تحولت إلى مقر وممر لتهريب السلاح الإيراني إلى لبنان “حزب الله” فهذا ليس اتهاما عابرا، وفي الوقت ذاته ليس اتهاما غير مفهوم لناحية المؤشرات والرسائل في سياق العلاقات بين “قسد” والولايات المتحدة الأميركية التي تصنف على أنها في خانة التحالف.
اللافت أن تصريحات المسؤول الأميركي جاءت في قلب عملية “عين الصقر” التي أطلقتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ليل الجمعة الماضي، للقضاء على ميليشيا “داعش”، معلنة أنها تأتي بالتعاون مع الحكومة السورية وموافقتها، إلى جانب التعاون مع الأردن والعراق، دون ذكر لـ “قسد” ودورها. هذا الأمر كان كافيا لاستشفاف كثير من المعطيات حول مستقبل هذا التحالف، وأن هناك تحولا في الرؤية الأميركية بخصوص العلاقة مع “قسد”، وتاليا مع الحكومة السورية، وهناك من يتحدث عن بدء العد التنازلي لإنهاء ملف “قسد” و”إراحة” سوريا من مسار تفاوض شائك ومعقد مع “قسد” التي ماطلت طيلة الأشهر الماضية في تنفيذ التزاماتها وفق اتفاق 10 آذار الذي وقعته مع الحكومة السورية، وتنتهي مهلة تنفيذه نهاية العام الجاري، أي بعد ثمانية أيام.
معطيات تقود التحول الأميركي
لا شك أن المعطيات لا تقتصر فقط على اتهامات المسؤول الأميركي، هناك مؤشرات ميدانية وسياسية تؤكد على أن التحول الأميركي سيشهد خطوات أخرى أوسع، خصوصا أن المسؤول الأميركي وسع دائرة اتهاماته باتجاه الإقليم، إيران ولبنان، وحتى اليمن، بناء على ما قال إنه معلومات استخباراتية لا يستطيع الإفصاح عنها، تشير كما يفهم من سياق الاتهامات أن “قسد” تعيد ترتيب/توسيع أوراقها، أو بعبارة أدق تريد الانقلاب على التزاماتها وعلى الاستحقاقات المتضمنة في اتفاق 10 آذار. “قسد” لا تريد الاندماج، لا عسكريا ولا سياسيا مع مؤسسات الدولة السورية، وهي تتمسك بالتقسيم، وفق تصريحات المسؤولين فيها وآخرها قائدها العام، مظلوم عبدي، الذي أعلن أمس الأول أن العام المقبل 2026 سيكون “عام الوحدة والكونفدرالية الوطنية الكردية”.
وإذا ما ثبتت اتهامات المسؤول الأميركي فهذا يعني أن “قسد” قرأت منذ مدة، وليس الآن، مؤشرات التحول الأميركي. ربما منذ زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى واشنطن في 10 تشرين الثاني الماضي، وانضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، والذي تلاه عدة عمليات تعاون وتنسيق بين واشنطن ودمشق ضد خلايا ميليشيا “داعش”، وصولا إلى عملية “عين الصقر”.
وكان المسؤول الأميركي صرح أمس الأول الأحد لقناة العربية/الحدث بأن السلاح الإيراني يتم تهريبه إلى مناطق الجزيرة السورية، حيث تسيطر قوات “قسد”، ومن ثم يتم نقله عبر شبكات تهريب إلى “حزب الله” في لبنان. وأكد المسؤول الأميركي أن إيران تستعمل كل الطرق الممكنة لديها لإرسال السلاح إلى أذرعها في المنطقة.
الاتهامات الأميركية
ووفق قناة “العربية/الحدث”، لا يريد الأميركيون التحدث بالتفصيل عن المعلومات الاستخباراتية المتوفرة لديهم لكن المسؤولين الرسميين والمصادر التي تحدثت إليها القناة في واشنطن، تشير إلى أن إيران ترسل شحنات الأسلحة إلى الميليشيات التابعة لها في العراق، بما في ذلك مهربون يعملون عبر إقليم كردستان.
وتنقل القناة عن متحدثين أميركيين أن “قسد” تستقطب عناصر من النظام السوري المخلوع وتحتفظ بعلاقات مع إيران والميليشيات الموالية لها، مشيرين إلى أن الأكراد المنتشرين في مناطق الجزيرة السورية يرون أنهم باتوا محاصرين من تركيا في الشمال ومن الحكومة السورية التي تريد استعادة جميع المناطق إلى سيادتها، ما يعني خسارتهم لمشروع الانفصال الذي يعملون لأجله.
وفي المعلومات الاستخبارية أن لقاء سريا جرى بين قادة من قسد ومسؤولين في “حزب الله” اللبناني، إلى جانب التواصل مع “أنصار الله” في اليمن، ولكن لا يوجد تفاصيل حتى الآن عن المجريات والنتائج، لكن هذا التواصل يكفي للخروج باستنتاجات حول النيات الحقيقية لـ “قسد”، ومخططاتها لتوسيع أوراقها إقليميا، وفرض وقائع جديدة في سياق مسار مقبل مع دمشق (ومع واشنطن) وحيث يرى أغلب المحللين والمراقبين أنه سيكون مسارا تصادميا.
مع ذلك فإن أي استنتاجات ثابتة تبدو استباقا لمسار التطورات المقبلة، والمتوقعة مع بداية العام المقبل، فما يجري خلف الأبواب المغلقة مكثف ومتشعب، والمعلن منه قليل جدا، لذلك فإن خريطة التوقعات تراوح دائما عند نقطة اللايقين تجاه المجريات وما يمكن أن ينتج عنها.
بكل الأحوال، وبحسب خبراء تحدثت إليهم صحيفة “الثورة السورية”، فإنه لا يمكن إغفال اتهامات المسؤول الأميركي، في سياق تحول أميركي بات واضح المعالم تقريبا، وإذا ما أخذنا “قسد” كمسار تحول رئيسي فإن إدارة ترامب تنفذ ما يسمى “التحول المسؤول” أي الاعتماد على شركاء رسميين وشرعيين (حكومات) وليس على وكلاء. وفي ظل اتساع الدعم الأميركي لسوريا، الدولة والقيادة، فإن على قسد (وغيرها) أن يعيد حساباته، وأن يأمن على نفسه من مفاعيل التحول الأميركي وإلا ليس مستبعدا أن يجد نفسه على قوائم الإرهاب. إدارة ترامب تبدو راسخة في دعم سوريا وتعزيز دعائمها، خصوصا على المستوى الأمني.
المشهد السياسي والميداني
الدكتور إليان مسعد، منسق الجبهة الديمقراطية العلمانية (جدع)، في حديثه لـ “الثورة السورية”، يرى أنه لا يمكن طرح مقاربات مستقبلية إلا وفق المعطيات التالية: أولا أن إدارة ترامب قطعت من الناحية السياسية أي اتصال لها مع الجهات المدنية في الجزيرة السورية، معتبرة أن وسيلة الاتصال الوحيدة هي دمشق والحكومة السورية، وهذا تغيير كبير بالنسبة للسياسة الأميركية التي تعتبر نفسها منسجمة مع ذاتها.
ثانيا، لا بد أن نأخذ بالاعتبار أن جزءا من تنظيم “حزب العمال الكردستاني” (PKK)، هو التحالف العسكري الموجود في شمال العراق وامتداداته على سوريا، ومعه حزب بوجاق (حزب الحياة) وهو حزب للكرد الإيرانيين، وبشكل أو بآخر هم على علاقة مع بعض الدوائر والجهات الأمنية الإيرانية.
ثالثا، انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة “داعش” ومن في حكمها وفق القرارات الأممية. هذا التحالف له مقتضيات على الجانبين، التحالف وسوريا.
رابعا، هو العمل الإرهابي الذي تم في تدمر (في 13 كانون الأول الجاري) واستهدف اجتماعا أمنيا سوريا وأميركيا، والذي أدى إلى مقتل وجرح أميركيين وسوريين.
ولمقاربة تصريحات المسؤول الأميركي، فإذا فرضنا حصول تهريب فهذا مفهوم تماما وفق المعطيات التي ذكرناها من تحول في المزاج الأميركي وتفضيل التعامل مع الحكومة السورية خصوصا بعد ما قاله ترامب بعد هجوم تدمر. وإذا فرضنا أن التهريب غير قائم فأي كلام استباقي أميركي، ناجم عن معلومات بأن هناك محاولات أو استعدادات لتهريب أسلحة، ففي مناطق الجزيرة السورية (وشمال العراق) هناك أسلحة مهمة، كما ونوعا.
ويضيف مسعد: إذا ثبت أن هناك تهريب أسلحة فهذا يشير إلى أن “قسد” وصلت لمرحلة يأس من الموقف الأميركي الذي بات يحسب في مصلحة سوريا الدولة، ووحدة وسلامة أراضيها، وهذا عمليا ليس منّة أميركية، بل منصوص عليه في القرارات الدولية، خصوصا 2254 و2799. هذا عدا عن أن التنسيق الأميركي مع الحكومة السورية لضبط الحدود بشكل عام، هو جزء من مكافحة الإرهاب الذي تقول عنه الإدارة الأميركية أنه يعني كل سلاح عابر للحدود. إذن فإن وجهة النظر الأميركية هي أنه يجب التنسيق مع الحكومة السورية.
هل تتخلى أميركا عن “قسد”؟
يعتقد مسعد، أن أميركا ربما تعمل على إعادة ضبط عقارب الساعة وفق التفاهمات مع الحكومة السورية التي تمت خلال زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى واشنطن ولقائه الرئيس ترامب. وإذا كانت “قسد” تريد التملص من الالتزامات والاستحقاقات عبر خيارات أخرى وحلفاء آخرين فـ “أعتقد أن هذه غلطة كبيرة ستدفع قسد ثمنها غاليا”.
أما ما يخص إيران، فمن نافل القول هنا أنها تسعى لتسليح أذرعها، إن كان في العراق أو سوريا أو لبنان.. الخ، هذا أمر بديهي، لكن بالمقابل فإن الجهات المواجهة للمشاريع الإيرانية من الطبيعي أن تتخذ احتياطاتها لمنع هذه العمليات التسليحية. وهذا أمر مفهوم، بحسب مسعد.
وحول عدم إشراك “قسد” في عملية “عين الصقر”، يرى مسعد أن السبب يعود إلى تفضيل الإدارة الأميركية العلاقة مع الحكومة السورية. وحتى إذا تم إشراك “قسد” مستقبلا في عملية “عين الصقر” فإنه سيتم عبر الحكومة السورية أو عبر قوات مدمجة مع الجيش السوري.
ومع المدى الزمني المفتوح لعملية “عين الصقر”، تستمر العمليات المشتركة والأحادية لضبط خلايا المسلحين والمهربين، في رسالة سياسية وعسكرية في آن، مضمونها تأكيد التحالف من جهة، وتثبيت سوريا كشريك أساسي في مكافحة الإرهاب من جهة ثانية، وتحييد “قسد” باعتبارها باتت عبئا من جهة ثالثة، ليس فقط على مستوى الميدان ومحاربة “داعش” بل على مستوى تطوير العلاقة بين واشنطن ودمشق.
“قسد” في هذه الحالة تكون قد خسرت موقعها داخليا وأميركيا كرافعة سياسية أمنية. وكانت دراسة صادرة عن معهد الشرق الأوسط للدراسات بتاريخ 27 تشرين الأول الماضي، تناولت تداعيات انضمام سوريا للتحالف الدولي، أكدت أن هذه الخطوة تحمل مكاسب استراتيجية لدمشق، ليس فقط على المستوى الأمني، بل السياسي أيضا، إذ تمنحها شرعية دولية كشريك في الحرب على الإرهاب وتضعف بالمقابل موقع “قسد” التي كانت تقدم نفسها بوصفها الشريك المحلي الوحيد للتحالف الدولي.
تعاون غير مسبوق
وكانت وزارة الداخلية أعلنت الاثنين الفائت، عن تنفيذ عملية مداهمة محكمة أسفرت عن ضبط صواريخ من نوع “سام 7” كانت معدة للتهريب خارج البلاد. ووفق الوزارة وردت معلومات دقيقة إلى مديرية الأمن في البوكمال تفيد بإخفاء صواريخ مضادة للطيران داخل أحد المنازل، وبناء عليه تمت عملية الدهم ومصادرة الأسلحة الموجودة، فيما باشرت الجهات المختصة تحقيقاتها لملاحقة جميع المتورطين. وأكدت الوزارة استمرارها في التصدي لكافة أعمال التهريب والأنشطة غير المشروعة واتخاذ جميع التدابير اللازمة لضمان أمن البلاد واستقرارها.
ويوم الأحد الماضي، تم تنفيذ عملية مماثلة في منطقة قدسيا في ريف دمشق أسفرت عن توقيف خمسة أشخاص بتهمة تهريب أسلحة لصالح مجموعات خارجة عن القانون في السويداء ومناطق “قسد”، وخلايا مرتبطة بـ “داعش”. ووفق قائد الأمن الداخلي في ريف دمشق العميد أحمد الدالاتي، تمت العملية بناء على معلومات دقيقة، شملت ضبط طائرات مسيرة، وطن ونصف الطن من متفجرات “تي إن تي”، وعبوات ناسفة مضادة للأفراد، يبلغ وزن كل منها 2 كيلوغرام، كانت معدة للاستخدام في هجمات بالمسيرات.
هذه العمليات النوعية، هي بمثابة رديف عملياتي ميداني في سياق عملية “عين الصقر”، ودور سوريا في إطار التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب. والأهم أن هذه العمليات هي ضمن التعاون السوري الأميركي ما بعد انضمام سوريا للتحالف الدولي. وسبق هذا الانضمام، بمعنى مهد له، عدة عمليات مشتركة سورية أميركية، حيث أخذت الحكومة السورية دورها الأمني الميداني المفترض بعد أن كانت “قسد” تضع نفسها في هذا الموضع.
ففي تموز الفائت، كشفت وسائل إعلام عن عملية إنزال جوي دقيقة نفذها التحالف الدولي، بالتنسيق مع وحدات من الجيش السوري وقوى الأمن الداخلي، في مدينة الباب بريف حلب الشرقي، وأسفرت العملية وقتها عن مقتل أربعة مطلوبين، واعتقال قيادي عراقي بارز في ميليشيا “داعش” وعدد من مرافقيه.
وبعد هذه العملية النوعية، بدأت سلسلة من العمليات المماثلة بالتصاعد في مناطق عدة، لا سيما في ريف دمشق والبادية. وفي هذا الإطار، أعلنت القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) أن القوات الأميركية، بالتعاون مع شركاء محليين، نفذت قرابة 80 عملية عسكرية ضد داعش منذ تموز الماضي.
وأكد قائد سنتكوم، الأدميرال براد كوبر، أن التعاون مع وزارة الداخلية السورية مكن القوات الأميركية خلال الشهر الفائت من تحديد وتدمير أكثر من 15 موقعا لتخزين الأسلحة تابعة لـ “داعش” جنوبي البلاد. كما كشفت سنتكوم عن تنفيذ عملية مشتركة واسعة بين 24 و27 تشرين الثاني الماضي، تم فيها تدمير مستودعات ذخيرة للميليشيا في ريف دمشق، عبر ضربات جوية وتفجيرات ميدانية أشرف عليها خبراء هندسة عسكريون.
إلا أن ذروة هذا التنسيق جاءت في منتصف كانون الأول الجاري، حين أطلقت الولايات المتحدة عملية “عين الصقر” ردا على هجوم تدمر في 13 كانون الأول الجاري.
وفي الأيام ما بين هجوم تدمر وعملية عين الصقر تم تنفيذ عشر عمليات مشتركة، وفق مسؤول أميركي تحدث لشبكة “فوكس نيوز”، واصفا هذا التعاون بأنه غير مسبوق من حيث الكثافة والتنسيق مع الحكومة السورية.
المصلحة المشتركة
ربطا بكل ما سبق، هناك من يعتقد أن الاتهام الذي أطلقه المسؤول الأميركي، يتعدى “قسد”، لناحية الميدان وتوسيع عملية “عين الصقر”. ويشير مراقبون إلى زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن أواخر هذا الشهر، حيث سيلتقي ترامب. صحيح أن سوريا ستكون حاضرة في اللقاء بصورة أساسية، لكن إيران ستكون حاضرة ربما بصورة أكبر. وسبق لوسائل إعلام إسرائيلية أن نشرت عدة مرات أن نتنياهو سيحاول إقناع ترامب بتوجيه ضربة جديدة لإيران. وتاليا فإن اتهامات المسؤول الأميركي لـ “قسد” تصب في اتجاهين: الأول، إدانة إيران وتشريع عملية ضربها مجددا باعتبارها تهديدا إقليميا، وضمن ذلك القوات والقواعد الأميركية في المنطقة. والاتجاه الثاني هو إدانة “قسد” ووضعها في موضع المتهم الذي انقلب على التفاهمات والالتزامات، وتشريع فك الارتباط بها، وصولا إلى حلها ربما في المدى المنظور، وتخليص سوريا من ملف شائك ومعقد وغير قابل للحل، كما ذكرنا آنفا.
وبحسب الخبير السياسي: “حتى لا نتهم بحديث مثالي عن العلاقة السورية الأميركية واتجاهات أميركية محتملة لإنهاء ملف “قسد”، نقول إن الحكومة السورية التي استمرت طيلة الأشهر الماضية في محاولة احتواء قسد من دون تصعيد عسكري، والتفاهم معها وفق مقتضيات المصلحة الوطنية العليا، لم تستطع تحقيق نتائج، في ظل أن قسد لديها قرارات وتوجهات مسبقة برفض يد الحكومة الممدودة، بل هي عمدت وما زالت تعمد إلى تصعيد عسكري مع القوات السورية في كثير من المواضع والمواقع”.
- الثورة السورية

























