من المثير بالنسبة لباحث ومراقب للشأن السوري العام، من الخارج، على مدار 13 عاماً، أن يحتك مع الظواهر التي كان يكتب عنها، من الداخل هذه المرة. هكذا أتاحت الظروف لكاتب هذه السطور، أن يستكشف مدى دقة التوصيف الذي تكرره شريحة من المحللين السوريين، من حين لآخر، ومفاده أن الواقع يختلف عن الصورة التي تعكسها وسائل التواصل الاجتماعي. وقد يكونون محقين إلى درجة كبيرة.
لا يدّعي كاتب هذه السطور تقديم توصيف ميداني يتسم بالعلمية الرصينة. هي مجرد مشاهدات وملاحظات تم جمعها عبر الاحتكاك بشرائح عدة من الشارع السوري، في دمشق، تحديداً. مشاهدات وملاحظات، كانت مفاجئة لكاتب هذه السطور، في كثير من زواياها. فمواقف عامة الناس، بعيدة بالفعل عن كثير من الاستقطابات التي توحي بها كتابات المؤثرين والإعلاميين والنشطاء السوريين، على وسائل التواصل.
أولى الملاحظات التي يمكن تلمسها سريعاً، هي الهم المعيشي، الذي يحكم تفكير جميع من قابلناهم، ومن مختلف الفئات الطبقية. وكان من الملفت، أنه مع اختلاف أمزجة ومواقف من قابلناهم، كانت الشكوى العامل المشترك. فالجميع مستاء من الواقع المعيشي. ومعظمهم يتحدثون عن أوضاع اقتصادية أفضل، كانوا متكيفين مع صعوباتها، قبل سقوط نظام الأسد، منذ عام. بعضهم قالها بصراحة -عدة أشخاص- إن تجارة الكبتاغون التي كانت مصدر تمويل رئيسي لعصابة الأسد وأزلامه من العناصر الأمنية والمقاتلة، كانت في الوقت نفسه مصدر سيولة تسري في شرايين الاقتصاد، فتعطيه دفعة للحياة. وهو ما يفتقده اليوم أصحاب المحال التجارية، بصورة جلية، وفق وصفهم.
لم نقابل -حتى ساعة كتابة هذه السطور- أحداً يدافع عن نظام الأسد. والجميع تقريباً يحمّله مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في البلاد، اليوم. لكن بعضهم، في الوقت نفسه، يتحدثون عن ظواهر حكمت العلاقة بين الشارع و”الدولة”، في الحقبة البائدة، لا تزال قائمة اليوم إلى حدٍ كبير. أبرزها، المحسوبية، والعلاقات مع المسؤولين. ما اختلف، هو خلفية هؤلاء المسؤولين ومشاربهم السابقة. ولا تزال الرشوة وسيلة فضلى لتخليص أي معاملة عالقة في الدوائر الحكومية. لكن مع فارق ملحوظ على صعيد تحسّن سرعة الإجراءات الحكومية، مقارنة بالسابق.
ومن أبرز الملاحظات التي يمكن تسجيلها أيضاً، ارتفاع غير مسبوق لسقف الجرأة في مناقشة الشأن العام في أوساط العامة. ومع ارتفاع هذا السقف، يمكن بسهولة لأي مراقب جاد، أن يتلمس مزاج الناس الفعلي. والذي يحكمه الترقّب لتحسّن معيشي مُنتظر. هذا الترقب يستند إلى نظرية شعبية رائجة لمسناها مع كثيرٍ ممن تحدثنا معهم، ومفادها أن سوريا غنية بالثروات، وأن القوى الدولية والإقليمية مندفعة للاستثمار فيها. ولا مشكلة لديهم في ذلك، لكنهم يريدون تلمس تغيرات سريعة في حياتهم المعيشية، كنتيجة للاستثمار في هذه الثروات.
ألمح لنا البعض -كنتيجة لارتفاع سقف الجرأة في الحديث بالشأن العام- عن فساد في أداء بعض مسؤولي “الدولة” الجدد. وتحكم هذا الحديث درجة ملحوظة من السيولة في المعلومات وعدم الدقة. لكنه يعكس ارتياباً جلياً حيال أداء رجالات “العهد الجديد”. بعضهم ألمح أيضاً لحالة “الأدلبة” أو “الشملنة” -المسؤولون القادمون من الشمال والمقربون من الفصائل التي شاركت في “ردع العدوان”- والذين باتوا ملحوظين في معظم المراكز الحسّاسة في مؤسسات الدولة.
قلّة هم الذين حدثونا عن تدخلات أمنية في الحريات الشخصية، من قبيل ألبسة النساء والرجال. لكنها حالات وقعت بالفعل. وإن كانت محدودة وفق ملاحظاتنا. وكان يمكن مشاهدة أعداد كبيرة من السيدات “السافرات” في مناطق مختلفة من دمشق، يمشين بكل أريحية، مع الإشارة إلى أن “سفورهن” يتماشى مع الجو العام الرائج في سوريا، حتى قبل 2011. بمعنى أنه “سفور” محتشم. وكان من الملحوظ مشاهدة ظاهرة إطالة الذقون، لأغلب الشباب، مع حف الشوارب في حالات كثيرة أيضاً. وقد يكون ذلك من طبائع شرائح واسعة من السوريين، الذين يتماشون مع “المتغلبين” في الحكم. وفي ذلك، نذكر ظاهرة “تربية الذقن” وفق “ستايل” باسل الأسد، الابن الأكبر لحافظ الأسد، والذي توفي في حادث سيارة عام 1994.
وفي الطبائع ذاتها، التي كُبتت خلال فترة حكم آل الأسد، والتي سبق أن أشار إليها الرئيس الأسبق شكري القوتلي -وفق ما يُنسب إليه- كان من الملحوظ في معظم من تحدثنا إليهم من عامة الناس، من غير ذوي الاختصاص بالشأن العام، اعتدادهم بقناعاتهم ومعلوماتهم وأفكارهم، ورفضهم لتقبّل نقدها، حتى لو جاء ذلك من شخص “خبير”.
ومن الملاحظات الملفتة أيضاً، أن الاستقطاب الحاد الظاهر في وسائل التواصل، غير ملحوظ في الشارع. فغالبية من تحدثنا إليهم، رفضوا وجود معاملة تمييزية بحق “الأقليات”. بل على العكس، أغلبهم رحبوا بإجراءات التسامح وفتح صفحة جديدة بين السوريين، باستثناء قلّة.
في الختام، كان مزاج سكان دمشق رمادياً، مزدحماً بغيوم الترقب بفرج قريب، على غرار علاقة سكان هذه المدينة بمناخها، في هذا الوقت من السنة. وكان يمكن تلمس مقدار الضيق الذي يشعر به الأغلبية، جراء الضغط المعيشي. وهو مؤشر يجب على صاحب القرار بـ”الدولة” السورية أخذه بالاعتبار، بصورة جدّية وعاجلة.
- المدن



























