ما تكشفه حادثة تفجير مسجد في حمص يوم الجمعة الماضي، في منطقة ذات غالبية علوية، وتبنّيها عبر ما تُسمّى “سرايا أنصار السُّنة” التي يُرجَّح أنها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو امتداد له، وما تُشير إليه عملية تدمر قبلها (قُتل فيها أميركيون وجُرحوا، وبالرغم من أن “داعش” لم يتبنَّها صراحة، إلا أن بصمته الأيديولوجية حاضرة فيها)، لا يتوقف عند حدود العمليات نفسها، ولا عند عدد القتلى أو هُويَّة المُنفِّذين، بل يتجاوز ذلك إلى سؤال أعمق بكثير: لماذا يبدو التنظيم قادراً دائماً على التسلل إلى لحظات الانتقال، والتقاط الفجوات، وتحويل الأزمات المُركَّبة إلى وقود تعبوي؟
المشكلة الأساسية في فهم “داعش” أنه ما زال يُختزَل في التنظيم نفسه، في عناصره وخلاياه وعملياته، بينما الحقيقة أنه لم يعد مجرّد بنية عسكرية يمكن تفكيكها، بل بات، قبل كلّ شيء، خطاباً. خطابٌ يتغذّى من الارتباك السياسي، ومن الشعور بالخذلان وغياب الدولة المكتملة، ومن صراع السيادات المفتوح. كلّما اتّسعت هذه الفجوات، وجد التنظيم فيها مساحةَ حياةٍ جديدة، حتى وهو مطارد ومحدود القدرة.
ولعلّ أحد الأسباب الرئيسة اليوم في تعزيز البيئة المُحفِّزة لتنظيم داعش، الدور الإسرائيلي، وخصوصاً في ظلّ حكومة بنيامين نتنياهو؛ إذ لم يعد مجرّد عامل خارجي يمكن وضعه بين قوسين. فالضربات المتكرّرة داخل الجغرافيا السورية، والتعامل مع سورية ساحةً مفتوحةً للرسائل الإقليمية، يترك أثراً سياسياً ونفسياً عميقاً في الداخل السوري؛ ليس لأن الشارع السوري يمنح “داعش” شرعيةً، بل لأن صورة الدولة القادرة على فرض سيادتها تتآكل، ولو تدريجياً. ولا يحتاج هذا التآكل “داعش” أكثر من الإشارة إليه، فالتنظيم لا يبني شرعيته على إنجازاته، بل على إخفاقات الآخرين.
في المقابل، تبدو المقاربة الأميركية لمكافحة الإرهاب أسيرة منطق تقني – أمني ضيّق: تركيز على الضربات، وعلى تفكيك الخلايا، وعلى إدارة الخطر، لا على إنهائه. هذه المقاربة قد تُضعف “داعش” عسكرياً، لكنّها لا تلامس الأسباب التي تجعله قابلاً للعودة. فالولايات المتحدة لا تتعامل مع “داعش” بوصفه نتيجة سياق سياسي واجتماعي معطوب، بل بوصفه ظاهرةً أمنيةً يمكن احتواؤها. وهنا المشكلة الكبرى.
الأصعب أن النظام السوري الجديد في وضع شديد الحساسية؛ فهو، من جهة، مضطرٌّ إلى الانخراط في الجهود الأميركية لمكافحة الإرهاب، ليس قناعة بالضرورة، بل لأن هذا المسار يشكّل بوابة الشرعية الدولية ومخرجاً من العقوبات التي تخنق الاقتصاد وتُضعف الدولة من الداخل. ومن جهة أخرى، يضعه هذا الانخراط في ظلّ استمرار الدور الإسرائيلي، مباشرة في مرمى خطاب “داعش”، الذي لا يحتاج سوى هذه الصورة ليُعيد تشغيل مفرداته التقليدية عن “التحالف مع الكفّار” و”الخيانة” و”الردّة”.
يجيد “داعش” هذا النوع من الاستثمار. وهو لا يخاطب المجتمع كلّه، بل فئة محدّدة، وغالباً مهمّشة أو مرتبكة أو غاضبة: شريحة من الشباب السوري التي لم تستطع التكيّف مع التحوّلات الكبيرة التي شهدتها البلاد بعد سقوط نظام الأسد، ولا مع تحوّلات “هيئة تحرير الشام”، واتجهت نحو خطاب أكثر براغماتية وأقلَّ راديكالية. هذا التحوّل، مهما كانت دوافعه السياسية، ترك فراغاً نفسياً وفكرياً لدى من اعتادوا خطاباً صدامياً واضح الحدود.
هنا يصبح الخطر الحقيقي أبعد من مجرّد عملية أو خلية. الخطر هو قدرة التنظيم على إعادة إنتاج نفسه بوصفه “معنى”، بوصفه خطاباً، وبوصفه حالةَ احتجاج عنيفة ضدّ واقع مرتبك. فما تحتاجه سورية اليوم ليس مكافحة الإرهاب فقط، بل استعادة فكرة الدولة نفسها: دولة تمتلك جيشاً وطنياً موحّداً، قادراً على فرض نفوذها في كامل الإقليم، لا دولةً تتقاسمها مناطق نفوذ ورعاة خارجيون. تقوية الجيش الوطني السوري وتوحيد السلاح تحت مظلّته ليسا مسألةً تقنيةً، بل مسألة سياسية وجودية. حين يشعر المواطن أن الدولة هي المرجعية الوحيدة، يتراجع خطاب التنظيمات تلقائياً.
في الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل البعد السياسي والاجتماعي. فالشباب الذين يجدون أنفسهم خارج المعادلة، بلا أفق اقتصادي ولا معنى سياسي، سيبقون الفريسة الأسهل لأيّ خطاب متطرّف. فتح المجال العام، وإعادة الاعتبار لفكرة المواطنة، وخلق مسارات واقعية للاندماج والمشاركة، ليست ترفاً، بل جزء من الأمن الوطني.
- العربي الجديد



























