في أبريل/نيسان 1987 نظم «النادي الثقافي الطاهر الحداد» في تونس العاصمة يومين دراسيّين عن ميشال فوكو، الذي توفي قبل ذلك بثلاثة أعوام، شارك فيهما صديقه المؤرخ بول فاين والصحافي ديديي أريبون، الذي كان على وشك إتمام كتابة سيرة الفيلسوف الشهير، وجمع من المثقفين والجامعيين التوانسة الذين كان عدد معتبر منهم طلابا لدى فوكو. وكان من أبرز هؤلاء الأستاذ فتحي التريكي الذي لا أزال أستحضره بغليونه السارتري وهو يفتتح الندوة بـ«مرافعة عن الفلسفة المنفتحة» المترحّلة (من الترحال وعدم القرار) عند فوكو. بعيد ذلك سافرت إلى أمريكا، وكان أن دعي أستاذي الفيلسوف الأمريكي بول وايريتش لإلقاء محاضرة في باريس، فسألني: ماذا أجلب لك؟ قلت: كتاب أريبون عن فوكو. ثم حدث بعدها بسنوات أن قابلت أريبون في لندن، وكنت في الأثناء قد قرأت أيضا كتابه الحواري مع كلود لفي-ستروس، ولما تجاذبنا أطراف الحديث كان ممّا قاله لي أن قد تأكد لديه أن التوانسة هم من أفضل العارفين بفوكو سيرة وفكرا.
كان لفوكو مكانة متميزة في الأوساط الفكرية في بلادنا، خصوصا لدى الجيل الذي تتلمذ عليه في الجامعة التونسية من خريف 1966 حتى نهاية 1968. وقد شهد إضرابات الطلاب التوانسة وتحركاتهم ضد النظام بداية من مارس/آذار 1968، وتسنى له بعد ذلك، في حواراته مع الصحافي الإيطالي دوتشو ترومبادوري، أن يشيد بهذه الانتفاضة العالمثالثية ويذكّر بأسبقيتها على انتفاضة مايو الشهيرة في فرنسا. ويعرف طلاب فوكو في تونس أنه دعم انتفاضتهم بما استطاع. كما يعرفون أنه كان مثليا، حيث تطابقت الروايات حول طلبه للرجال. أما مسألة استغلاله الأطفال جنسيا، فأكاد أجزم أنه لم يكن يعرف بها أحد من طلابه أو زملائه. ومن الأدلة الكثيرة على ذلك أن فوكو علّل اضطراره لمغادرة تونس على عجل بعيد حرب 1967 باشمئزازه من المظاهرات وأعمال العنف «المعادية للسامية» إلا أن إدوارد سعيد ذكر في مقاله الشهير عن لقائه مع سارتر وديبوفوار في بيت فوكو (ولو أن صاحب البيت غادر ضيوفه منذ الصباح الباكر تهرّبا من الخوض في الصراع العربي الإسرائيلي!) أن «أستاذة تونسية زاملت فوكو في قسم الفلسفة [لم يسمّها سعيد، لكن الأكيد أنها فاطمة حداد] روت لي رواية مغايرة (..) حيث قالت إن فوكو قد رحّل من البلاد بسبب ممارساته المثلية مع الطلاب الشباب».
كانت لفوكو مكانة متميزة في الأوساط الفكرية في بلادنا، خصوصا لدى الجيل الذي تتلمذ عليه في الجامعة التونسية من خريف 1966 حتى نهاية 1968
وهذا دليل على أنه لم يكن معروفا عنه إلا رذائله مع طلاب الجامعة. أما الآن فقد تبين أنه كان أيضا ينتهك براءة الأطفال. وبما أنه كان يغري الصبيان المساكين بالمال فلا يعقل أن يفضح نفسه فيخبر زملاءه أو طلابه التوانسة باقترافه هذه الجرائم الشائنة التي «ما كان ليجرؤ على اقترافها في فرنسا» مثلما قال الكاتب غي سورمان الذي فجر الفضيحة أخيرا في برنامج تلفزي استضافه بمناسبة صدور كتابه «قاموسي الشخصي عن الخطل والهراء». ولولا أن «القدس العربي» نقلت ما نشرته «الصنداي تايمز» عن شهادة سورمان هذه فلربّما ما كان ليعرف بالأمر من العرب إلا القلائل.
ويقرّ سورمان الآن بالندم لأنه شهد كيف كان فوكو «يرمي النقود للأطفال ويواعدهم على العاشرة ليلا في المكان المعتاد» (مقبرة ضاحية سيدي بوسعيد!) ولأنه أدرك البعد الاستعماري لهذه الجرائم الشنعاء، لكن لم يخطر بباله ولا بال مرافقيه من المثقفين والصحافيين الفرنسيين أن يبلغوا الشرطة أو يفضحوا فوكو في الجرائد. على أن بعض التفسير (وليس التبرير) يكمن في التذكير بأن ثقافة ذلك العهد ما كانت لتكترث بخصوصيات حياة المشاهير وما كانت لتعدّها ذات شأن أو دلالة. إذ كانت صحافة واشنطن، مثلا، تعلم بغراميات كنّدي، وكانت صحافة باريس تعلم بعشيقة ميتران وبابنتهما مازارين، لكن كان التغاضي هو سيد الموقف. كما أني لاحظت أن «لوموند ديبلوماتيك» ترجمت مقال إدوارد سعيد إلى الفرنسية بعد ثلاثة أشهر من صدوره في «لندن ريفيو أوف بوكس» (1 يونيو/حزيران 2000) لكنها أسقطت الجملة المقتبسة آنفا بشأن مثلية فوكو وترحيله من تونس. إلا أن للتفسير حدودا، لأن انتهاك براءة الأطفال جرم يلعن المجرم ويطرده ويجرّده من الحق الإنساني في حرمة الحياة الشخصية. إنه شرّ مطلق ورجس لا يأتيه إلا وحش بشري.
ومع هذا كله فإن الحكم الأخلاقي، أيّا كان، لا يلغي الجدارة الفكرية أو الفنية. والدليل أن الغربيين لم يقاطعوا أدب أندري جيد لأنه جاهر بالممارسة المثلية مع الصبيان في الجزائر. الجزائر. كما أن العرب لم ينكروا شعر أبي نواس لأنه كان يمارس اللواط مع الصبيان (الغلمان بلغة عصره) في بغداد. ذلك أن هذه الرذيلة قد كانت منتشرة في البلاد العربية، مثلما تثبت كتب الأدب العربي القديم، بما فيها «متعة الألباب في ما لا يوجد في كتاب» للقاضي أحمد التيفاشي القفصي (بتحقيق الأستاذ جلّول عزّونة).
كاتب تونسي