العلاقة بين الغرب وإيران شديدة الالتباس، فهي خليط بين حب وكره، توافق وخلاف، مصالح عليا وخلافات دنيا. الأبيض والأسود في العلاقة محصوران بين أقواس، وبقية النص رمادية.
ولفهم هذه العلاقة الملتبسة لا بد من زيارة لتاريخها. ولم يعد سراً بعدما كشفت هيئة الإذاعة البريطانية في 2016 كيف بدأت القصة برسائل رجل دين هندي شيعي، من أسرة هندوسية، يحمل اسماً مبتكراً، روح الله خميني، الى إدارتي جون كيندي ثم كارتر الديموقراطيتين، في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، يستجدي فيها دعماً لثورة إسلامية تطيح بحكم الشاه، مقابل ضمانات لمصالح أميركا والغرب في المنطقة.
ولحماية الخميني من عقوبة الإعدام منحته قم لقب آية الله العظمى، رغم عدم توافر شروط الرتبة الدينية الأعلى في المذهب الشيعي. وهكذا اضطر الشاه لنفيه الى النجف، بموافقة صدام حسين، بعد أن استشعر خطره على الأمن الداخلي. علماء النجف لم يقتنعوا بجدارته وخشيت الحكومة البعثية من علاقاته الخارجية وآرائه الفقهية الثورية – رغم أن مرجعيات المذهب تحرم الخوض في الشأن السياسي والسعي لحكم الدولة حتى خروج الإمام الغائب. كما استشعر الشاه خطره فوافق صدام على حرمان الخميني من استخدام العراق منصة لتثوير الشعب الإيراني وتسييس المذهب.
الثورة الباريسية
دخل الغرب على الخط، واستضافت فرنسا الإمام الحليف، بعد توافق بين واشنطن ولندن وباريس على دعمه، ومنحته الحماية وحرية الحركة والعمل، وسهّلت له الوصول الى الداخل الإيراني والمعارضة الخارجية، والجاليات الإيرانية في المهجر. كما أمنت له أميركا العودة الى طهران بعد إخراج الشاه وتحييد الجيش والاستخبارات (السافاك) والأمن.
لم يفِ الخميني بوعده، فدفع الغرب بالعراق لمعاقبته، ولما مالت الكفة لصالح العرب، دعمت واشنطن عبر إسرائيل الجيش الإيراني بالسلاح وقطع الغيار، فيما عرف لاحقاً بفضيحة “إيران غيت”. ثم عاد التفاهم من تحت الطاولة في مد وجزر، بهدف عودة الاستثمارات والمصالح التجارية الغربية، وسيطرة الطائفة الشيعية على المنطقة السنّية، وتأمين إسرائيل. وكانت الإدارات الديموقراطية في أميركا والعمالية واليسارية في أوروبا، الأقرب الى اللوبي الإيراني والتفاهم مع طهران. وهي بذلك تتناغم مع الفكر الاستعماري الذي يراهن على تمكين الأقليات لضمان ولائها.
الهلال الشيعي
وبعد غزو أميركا لأفغانستان واحتلال العراق، أُسقطت الحكومات السنّية في غرب وشرق إيران، وأضعفت البلدان العربية، وسمحت لمشروع الهلال الشيعي بالهيمنة على بلاد الرافدين ولبنان. ولما بدا أن المعارضة السورية قاب قوسين أو أدنى من أسقاط الحكم الطائفي لبشار الأسد في دمشق، وعلى بعد أميال من قصر المهاجرين، جال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الغرب للتحذير من قيام دولة سنّية على حدوده الشرقية وطالب بدعم التواجد الإيراني في سوريا لتأمين بقاء العائلة الأسدية التي ضمنت أمن إسرائيل لأربعة عقود. ووضعت تل أبيب شروطها لقواعد الاشتباك مع إيران، وهي: عدم بناء قواعد دائمة، عدم توريد أسلحة متقدمة للميليشيات الإيرانية، وعدم الاستيلاء على سوريا.
ولتحقيق هذه الأهداف بهذه الشروط، سُمح في 2013 لـ”الحرس الثوري” و”حزب الله” والميليشيات الشيعية العراقية والأفغانية والباكستانية بمساندة قوات الأسد، وأُطلق قادة “القاعدة” وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي من سجون المالكي وبشار الأسد لمواجهة المعارضة السورية، وتسويق العمليات العسكرية على أنها حرب على الارهاب، وليس قمعاً لثورة شعبية.
كما سمح في هذا السياق لروسيا بتوفير الغطاء الجوي مقابل عقود طويلة المدى لقاعدتين جوية وبحرية. وعندما خرقت إيران قواعد الاشتباك الثلاثة، رغم أنها لم تطلق رصاصة واحدة على إسرائيل، قامت تل أبيب بضربات استباقية على خطر مستقبلي، ونفذت أكثر من الف غارة، بالتنسيق مع غرفة العمليات المشتركة مع موسكو. ولما حاولت أنقرة الاستفادة من الزوبعة بالتحالف مع “داعش” و”النصرة” و”الإخوان المسلمين” للسيطرة على الشمال السوري وضرب الأكراد المناوئين، رسمت لها أميركا وروسيا حدوداً لا تتجاوزها.
اتفاق بلا اتفاقية
أسوق هذه المقدمة لنستوعب العلاقة المصلحية بين أطرافها، وهي كما نرى تتقاطع وتتضارب، عسكرياً واقتصادياً وإيديولوجياً. وهذا يفسر التعاون المالي والنفطي بين تركيا وايران و”داعش”، كما يشرح التنسيق الإسرائيلي مع روسيا وإيران والأكراد نيابة عن أميركا وأوروبا، في الوقت نفسه الذي تتضارب المصالح في خطوط التماس وقواعد الاشتباك. ورغم أن السياسات العامة ثابتة لدى كل الأطراف، إلا أن المقاربات تأرجحت عند الأميركي خلال ولاية “الجمهوري” دونالد ترامب، وتعود اليوم الى مسارها الديموقراطي مع بايدن.
وعليه، نستطيع أن نتفهم التهافت الأميركي للعودة الى الاتفاق النووي، رغم عيوبه التي تبدت في تداعياتها خلال السنوات الخمس الماضية، وأبرزها الخروقات الإيرانية، وسلوكيات طهران المزعزعة للسلم الإقليمي، والبرنامج الصاروخي. الا أنه يصعب استيعاب استعداد واشنطن للتراجع عن عقوبات ترامب والقبول مبدئياً بالعودة الى الاتفاق الأصلي مع التفاوض على ملاحق إضافية بالرغم من ذهاب السكرة وعودة الفكرة عند صانع القرار الأوروبي والكونغرس الأميركي ومطالبتهما بإعادة صياغة الاتفاق لاستيعاب المهددات لأمن إسرائيل والقواعد الغربية، وتمديده الى ما بعد 2025.
مواجهة ايران النووية
وعليه، فإنني أتوقع أن تواصل القاطرة الأميركية جر المجتمع الدولي في اتجاه اتفاق معيب جديد مع إيران، رغم معارضة حلفائها في المنطقة، وتخريب إسرائيل للمشروع النووي باغتيال علمائه وتفجير مواقعه. فما بين القوى العظمى وإيران اتفاق استراتيجي دائم، بوجود اتفاقية نووية او غيابها.
وعلى العرب أن يستعدوا لمواجهة إيران ذرية خلال العام الحالي إن لم يتم الاتفاق، أو في سنة 2025 إنْ تم. ولم يعد أمامهم بد من إقامة تحالف عسكري متماسك، والدخول في سباق تسلح تقليدي ونووي، وتفعيل لوبي عربي – دولي، ومقايضة القوى الدولية على مصالحها العربية لضمان حد من التفاهم والتعاون في مرحلة المواجهة الحتمية.
ولحسن الحظ، فإن الاقتصاد الخليجي والعربي، ورصيدنا السياسي الإسلامي والدولي، أقدر على تحمل استحقاقات السباق والمقايضة والمواجهة من “اقتصاد المقاومة” الإيراني الهش، مهما تلقى من استثمارات صينية أو غربية. وهذه المقارنة تستحق تفصيلاً أوسع في مقالة جديدة.