يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في هذه الفسحة الحوارية، الكاتبة والإعلامية الفلسطينية السورية سعاد قطناني، معدّة البرامج التلفزيونية التي اشتُهرت ببرنامجها “يا حرّية“، الذي عُرض على شاشة (تلفزيون سوريا) المعارض، وهو برنامج يوثّق بصريًا تجارب المعتقلين السوريين السابقين في السجون الأسدية، كاشفًا عن الوجه الوحشي الحقيقي للنظام الأسدي الدموي، ومؤكدًا الروح الجبارة للإنسان السوري، في إيجاد أساليب الخلاص من قسوة هذه التجربة.
عملت ضيفتنا على نقل شهادات وحكايات المعتقلين والمعتقلات، عن السجن والسجّان -كما رُوِيَت لها- على الورق، مفرّغة مع النصوص الكثير من وجع روحها، وهي تسرد أحلام وآمال ومخاوف وأوجاع من عاشوا قسوة التجربة التي امتدت سنوات طويلة.. فكان كتابها الثالث الموسوم بـ «الشرّاقة.. ما قيل وما لم يقل في برنامج يا حرية»، الصادر عن “دار موزاييك للدراسات والنشر” في إسطنبول، والذي جاء في (370 صفحة من القطع الكبير)، وهو يحتوي -في جزئه الأول- على اثنتي عشرة حكاية موجعة، استندت إلى شهادات عددٍ من المعتقلات والمعتقلين السياسيين السابقين في سجون النظام الاستبدادي الطائفي الوحشي الجاثم على صدور السوريين منذ أكثر من خمسة عقود، وهم: الكاتب مصطفى خليفة صاحب رواية «القوقعة»؛ والمناضلة فدوى محمود زوجة المناضل عبد العزيز الخير، المغيّب منذ عام 2012 في أقبية الأجهزة الأمنية الأسدية؛ ومالك داغستاني؛ ومحمد برو؛ وتهامة معروف؛ ورياض أولر؛ وحسن النيفي؛ وإبراهيم بيرقدار؛ ورزان محمد؛ وباسل هيلم؛ ونظمي محمد؛ وعمر الشغري.
صاحبة (انكسار الصورةBBC )، من مواليد مدينة اللاذقية، لأبٍ فلسطيني الأصل من أبناء مدينة يافا المحتلة، وهي خريجة كلية الآداب قسم اللغة الإنكليزية في جامعة دمشق، وتحمل شهادة في “أساسيات الإعلام والاتصال” من كلية كونستوغا في كندا، وتزيد خبرتها في الإعلام المرئي على خمسة عشر عامًا، وقد عملت في تلفزيونات (الشارقة، وإنفينتي، وبي بي سي عربي، وتلفزيون سوريا). ولها كثير من المقالات في العديد من الصحف والمنابر الإلكترونية العربية والدولية.
هنا نصّ حوارنا مع صاحبة «عشر عجاف»..
في البداية، كيف تقدّم سعاد قطناني، ابنة الثورتين الفلسطينية والسورية، نفسها لقرّاء مركز حرمون للدراسات المعاصرة؟
أنا فعلًا فلسطينية سورية، وهذا التماهي بين فلسطينيتي وسوريتي لم يكن وليد اللحظة، بل هو وعي لذاتي وذاكرتي، للتاريخ والجغرافيا اللذين انغمست روحي فيهما، فأنا وُلدت لاجئة فلسطينية في سورية، لعائلة مكونة من عشرة أبناء وبنات، وُلدت في مدينة اللاذقية، ولكني لا أذكر منها سوى نتف صغيرة، لأنني غادرتها طفلة للعيش وعائلتي في مدينة دمشق؛ دمشق التي حفظتها عن ظهر قلب، بشوارعها وحاراتها.. بفرحها وحزنها، فيها تشكلت بداية وعيي للحياة وبذرة وعيي السياسي، حيث عرفت والدي وهو خلف القضبان في سجن المزة، كسجين سياسي، وأذكر تمامًا، وأنا في الصفّ الأول، أني تأخرتُ عن المدرسة في أحد أيام زيارة أبي -كم هو راسخ بالذاكرة ذلك اليوم، فبعد كل هذا العمر ما زلتُ أذكر أنه كان يوم ثلاثاء- يومَها أجبتُ ردًا على سؤال: “لماذا تأخرتِ؟!”، بالشرح للمعلمة أني “كنتُ في زيارة والدي في السجن”، فقاطعتني بكلّ صلف وبصوت عال، أمام رفاقي في الصف: “إيه أكيد أبوكِ عامل شي جريمة ولا سارق، ما؟!”، فأجبتها: “أبي سجين سياسي”! فما كان منها إلا أن انتفضت وهاجت وأخرستني. فعدتُ إلى مقعدي، وصوت صرير قلم الرصاص على دفتري يحفر في روحي!
هل يمكن لطفل أن يعي ماذا تعني كلمة “سجين سياسي”، في ذلك الوقت، وأن يستعملها كآلية دفاع عن الكرامة والقيم النبيلة؟! هكذا -بكل بساطة- دخلَت السياسة والحرية وفلسطين وسورية إلى قاموس مفرداتي وحياتي منذ البدايات، هذه المكوّنات شكّلتني، وشكلت سعاد التي هي أنا الآن، والتي تكره الظلم، بكل أشكاله وتلاوينه، وتكره الاستبداد والطغيان والاحتلال، وتنحاز إلى الحريات والإنسان. درسْتُ الأدب الإنجليزي في جامعة دمشق، وبعد تخرجي بعامين غادرتها، وبدأت بشق طريقي الإعلامي.
كل شيء في سورية كان يُنذر بالكارثة
على الرغم من أنّ السؤال عن البدايات مكرّر، تظلّ للبدايات نكهتها الخاصة؟ ماذا تخبرينا عن خطواتك الأولى في عالم “مهنة المتاعب”؟
أستطيع القول إنّ بداياتي الحقيقية كانت في تلفزيون الشارقة، إذ بدأت كمراسلة ومعدّة تقارير، ثم عملت كمذيعة أخبار في تلفزيون وإذاعة الشارقة، وقمتُ بإعداد وتقديم العديد من البرامج ذات العيار الثقيل، مثل برنامج «قراءات من الصحافة الأجنبية» أو «المجلة المرئية» و«أروقة التميز»، و«كتاب الأسبوع»، وغيرها من البرامج. ما يميّز هذه الفترة “التأسيسية” على مستوى العمل الإعلامي الحقيقي، أني وجدتُ في تلفزيون الشارقة، مع توجهه الوطني والقومي -آنذاك- وتبنّيه لقضية فلسطين، ضالتي، فكانت المساحة مفتوحة للقول والتعبير عن هذا الهمّ، وكنت كلّ يوم -بالعمل الجاد والدؤوب- أضيفُ رصيدًا إلى خبراتي ومعارفي الإعلامية، إن كان على مستوى الثقافة أو على مستوى التكنيك. في هذا المكان، عرفت أنّ الوسط الإعلامي صغيرٌ جدًا، مهما كان واسعًا، وعرفت أنّ سمعة الإعلامي تسبقه إلى أي مكان، ولهذا كنتُ حريصة على ألّا أقدّم إلا ما أقتنع وأؤمن به، وألا أتنازل عن مبادئي وقيمي.
بعد عملي في تلفزيون الشارقة، عملت في تلفزيون (إنفينيتي)، وكانت لي فيه تجربة مهمة جدًا، كان عنوانها الاجتهاد والعمل على تشكيل كياني الإعلامي، بمعنى الهوية الإعلامية لسعاد قطناني، عملت خمس سنوات، كمذيعة أولى ومعدة برامج في “إنفينيتي”، وعملت بجد، ولكن -مع الأسف- يبدو أنّ التجارب التي تبدأ بأحلام كبيرة، من دون خطط إستراتيجية للتطوير، تنتهي وإن طال بها الزمن، حيث إنّ هذا التلفزيون انتهى بعد مغادرتي، وانتقل كادره إلى محطات أخرى متفرقة. يمكن القول: إنّ التعامل الإعلامي بشكل عام، في تلك الفترة، كان مع القضايا السياسية أبسط، وكانت طريقة معالجة الأمور والتعامل معها أكثر سلاسة، ففلسطين محتلة من نهرها إلى بحرها، والموقف من احتلال العراق كان واضحًا، وآنذاك لم تكن الحريّات في البلاد العربية مثارَ جدل أو تناول في الإعلام العربي الذي كان بمعظمه تابعًا للحكومات. أما الآن، فقد تغيّر الإعلام كليًا عمّا كان وقتها، إذ وُلدت محطات كثيرة، وارتفعت جرعة المنافسة، وارتفعت نسبة الضوابط الإعلامية في بعض الأماكن، ونُسفت إلى حدٍّ كبير في أماكن أخرى، وزاد التمويل والحاجة إلى الإعلام الموجّه كميةَ الاستقطاب والشرخ والانقسام في القنوات الإعلامية، وبتنا اليوم نقرأ الفوارق والشروخ في طريقة تقديم الخبر الذي صار علامة مميزة للمرحلة، وتستطيع ببساطة أن تعرف توجّه القناة، من خلال “منظومة التعابير” التي تصوغها كلّ محطة بحسب توجهها.
متى تركتِ سورية؟ ولماذا؟، وإلى أين أودت بكِ دروب الثورة والحرب؟
غادرت سورية بعد زواجي، وعملنا أنا وزوجي في الإمارات، وذلك في بداية عام 2000، وصارت سورية بالنسبة إلينا، كحال كل المغتربين، مكانًا للأهل والأحبة والأصدقاء، نعود إليها في الصيف، ونلتقي بهم في رحلة قصيرة، لكني في كل عام كنت أشعر أن سورية التي أعرفها تبتعد، فالفقر كان يزداد، والشرخ الاجتماعي يكبر، والفساد كان يضرب عميقًا في بنية المجتمع، كنت أرى موظفين ما زالوا في أوّل السلّم الوظيفي، ومع ذلك يمتلكون سيارات فخمة تصطف أمام بيوتهم في أحزمه الفقر، كنت ألحظ أنّ هناك شيئًا كبيرًا يحدث تحت السطح، كان النظام يفتك بالمجتمع، بانفتاحه وشراهته لأموال الخليج والاستثمارات، على حساب البنية الاقتصادية للبلاد، كان كل شيء يُنذر بالكارثة!
في نهاية 2008، هاجرنا إلى كندا بحثًا عن “وطن احتياط”، في حال لفظتنا الجغرافيا والعروبة، لأنّ العودة إلى سورية أصبحت شبه مستحيلة مع التخوف الأمني الذي أصبح يطارد كل من له وجهة نظر مختلفة؛ وهناك ونحن في كندا بدأت ثورات الربيع العربي تشتعل، وكانت قلوبنا معها تشتعل؛ الأصوات التي سمعتها في البدايات تصدح في سوق الحريقة “الشعب السوري ما بينذل…” أعادت لسورية مكانتها في قلبي وروحي، نسيت النوم، وكنت أتابع ما يحدث لحظة بلحظة، هناك شيء قد تحرّك، والحجر الذي رُمي في البركة الراكدة قد قلب العالم وقلب كياني. عام 2013، بدأت إجراءات الانتقال إلى بريطانيا، بعد قبولي في مسابقة للعمل في تلفزيون (بي بي سي)، وعملت هناك عامين، ثم عدت إلى الإمارات، وبعدها جئت إلى إسطنبول وعملت في “تلفزيون سوريا” كمذيعة ومنتجة ومعدة، وحققت أيقونة قلبي برنامج “يا حرية”، ومن ثم عملت كمديرة لقسم البرامج، وبعدها تفرغت لكتاباتي، وهذا ما كان.