تنطلق حلقة من برنامج “في فلك الممنوع” على قناة “فرانس24” بعنوان “ثدي المرأة: سيد المحرمات؟” من حادثة اعتداء على امرأة في فرنسا كانت ترضع طفلها في الطريق، حين صفعتها امرأة بسبب ذلك. ومع أن الحلقة تبدأ من مقابلة مع تلك المرأة، الضحية، إلا أنها سرعان ما تذهب بعيداً عن الحادثة، لتناقش تقريباً كل ما يتعلق بالأمر؛ التعري كشكل من أشكال الاحتجاج السياسي، فصاحة حمالات الصدر، الثدي وحضوره على الشاشات، أي ضرورة لإخفاء الحلمات، تحرير الأثداء من النظرات والحمالات، الثدي في الشعر العربي، حتى المقاوم منه، يتدخل فرويد وهيغل وثلاثة من رجالات الأمة من مشارق الأرض العربية ومغاربها، تستضاف الناشطة المصرية علياء المهدي، وقد سبق لها أن تعرّت أمام الشاشات للاحتجاج، وستكون الحلقةَ الأضعف، لأن هناك من سيلحن بحججه أفضل منها. كل ذلك من دون أن يعود البرنامج إلى الحادثة، مناسبة الحلقة!
لا أحد تخدشه رؤية أثداء النساء عارية في إعلانات بيع السيارات أو المشروبات الكحولية، بينما يخدشه إرضاع طفل جائع
لا شك أن كل ما ذكر هو على صلةٍ ما بموضوع الحلقة، لكن على الأقل كان بالإمكان الإفراد لجزئية يعود النقاش حولها بين حين وآخر في مكان ما من العالم، هي الإرضاع في الشارع. كان حريّاً أن نرى لماذا يحدث ذلك في فرنسا، وما النقاش الذي دار حول الحادثة، وإن كان هناك من تداعيات وقوانين محتملة، هل كانت هناك حملات داعمة للمرأة الضحية، والمرأة التي تضطر إلى الإرضاع في الشارع، مثل حملات أخرى جرت في العالم تنديداً وتأييداً لحق المرأة والطفل، ودحضاً لـ “نفاق الإعلانات، حيث لا أحد تخدشه رؤية أثداء النساء عارية في إعلانات بيع السيارات أو المشروبات الكحولية”، بينما يخدشه إرضاع طفل جائع، كما ورد في حملة دارت في تشيلي منذ أعوام في ضوء حوادث مشابهة.
“في فلك الممنوع” برنامج جريء حقاً وضروري، لكن هنا، في هذه الحلقة، قد لا يفيد زجّ كل ما نعرف عن الموضوع من أسماء ونقاشات وصور وأغان، بما فيها أغنية عمر سليمان “ضبي صدرك”.
قد لا يفيد النقاش العمومي والمكرّر، ما دام الأمر مرتبطاً بحادثة معينة جرت في مكان ولها أطراف يمكن الوصول إلى وجهات نظرهم.
تشييع مخيم
يصرّ أحمد جبريل حتى اللحظة الأخيرة أن يسطو على مكانة الثوار الحقيقيين، فمثلما اندسّ بينهم محتلاً مقعداً بارزاً في “منظمة التحرير الفلسطينية”، ممثلاً ثقيلاً فيها للنظام السوري، يلقي بنفسه اليوم بين شهدائها في مقبرة مخيم اليرموك، قال حسب أحد أنجاله في تقرير لقناة “الميادين”، يريد أن يسجّى في مكان شهداء الثورة، على أرض مخيماتها، ريثما ينقل إلى فلسطين!
تعبر جثة أحمد جبريل أمام عينيك فترى في خلفيتها مشهد المخيم المدمّر على يديّ الرجل وأنصاره ومحبيه. صورة نادرة يجتمع فيها القاتل والقتيل.
ها هو إذاً، ملفوفاً بالعلم الفلسطيني، يشقّ الطريق من منزله في حيّ المزة الدمشقي، الشهير بثرائه واحتضانه للمسؤولين والنافذين، ومن في حكمهم، إلى مقبرة المخيم. تعبر الجثة فترى في خلفيتها مشهد المخيم المدمّر على يديّ الرجل وأنصاره ومحبيه. صورة نادرة يجتمع فيها القاتل والقتيل. ومن سخرية التاريخ أن القاتل لم يأت ليعيد تمثيل الجريمة، إنه هنا ليقول إنه أدى المهمة كاملة كما ينبغي لقاتل، من مخيم “تل الزعتر” وفنادق بيروت ومعارك البداوي والبارد في طرابلس وصولاً إلى تدمير مخيم اليرموك والتنكيل بأهله. لقد أكمل الجريمة، وحاز فوقها على كل الألقاب الخاصة بشهيد: مدرسة في المقاومة ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي. مقاوم من طراز رفيع. رجل حرّ آمن بحتمية الانتصار!
هذا الفيديو، التشييع هو الهزيمة بعينها، الهزيمة كلّها، حيث القاتل يحتل مكانة البطل، ويستحق كل المراثي، التي ربما لم تتح للشهداء الحقيقيين.
من هرّب هذي البلدة!
ذات مرة، صرخ شاعر عراقي هارب من العراق نحو إيران إزاء قرية فيها: “من هرّبَ هذي القرية من وطني؟”. كانت من تلك القرى عربية الأصل ووقعت في قبضة إيران، وكان الشاعر قد لمح عروبة الوجوه والنخل، فصاح صيحته الشهيرة. أما بلدة السيدة زينب، في ضواحي دمشق الجنوبية، فلم تقع بعد في حدود دولة أخرى، إلا أنك حين تقف أمامها، في فيديو على قناة “ديالا ووارف”، وتمشي مع ديالا في شوارعها وفنادقها ستتأكد أنها واقعة تحت الاحتلال، وإن لم تغادر أرضاً عربية، وأنك لا بدّ ستكرر بالحزن ذاته: “من هرّبَ هذي البلدة من وطني؟!”.
فالمقام، الذي يضم دم السيدة، فارسي الطراز، ومعظم زوّاره كذلك. الأعلام حمراء ترفرف فوق القباب مع عبارة “يا زينب”. أسماء المحال لا تخفي دلالاتها: “بزورية العباس”، “اتصالات أحباب زينب”، ملابس “حيدرة”، مجوهرات “الرضا”، بل حتى بعض الأسماء ستكتب بالفارسية، فلن تكفي كل الإشارات الدالة على صيدلية، سيضاف إليها اسم “دار خانة”.
السياحة الدينية في السيدة زينب في دمشق هي فقط لأهالي العراق وباكستان. باقي الجنسيات العربية ليس مسموحاً لها إلا بموافقات خاصة
ولأن الفيديو تحت عنوان “كيف فيك تيجي سياحة دينية على سوريا”، فإن معظمه يدور في الفنادق، بل ويمكن اعتباره عملاً دعائياً مأجوراً مئة في المئة لها، حيث تأخذ ديالا مشاهديها إلى جميع أنواع الغرف والمطابخ والحمامات، وتضيف إليها فصلاً خاصاً بتعريف السياح الدينيين بالإجراءات اللازمة لتلك السياحة. مع تنويه سيقيم طويلاً على الشاشة: “حالياً السياحة الدينية فقط لأهالي العراق وباكستان. باقي الجنسيات العربية ليس مسموحاً لها إلا بموافقات خاصة”. نخجل أن نقول لكم ما الترجمة الطائفية لهذه العبارة، وللفيديو برمّته.
وبالمناسبة، بالنسبة للمؤمنين، لا داعي لأن تتحفهم في كل غرفة فندقية بلافتة نحاسية تدلّ إلى القِبلة، “فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ”، هذا إن كانوا يعرفون الله في الأساس.
* كاتب فلسطيني سوري
“القدس العربي”