في تونس غموض قد يكون خلّاقاً، وليس بجديد، فبحرقه الغامض لنفسه خلق البوعزيزي في تونس ثورة لحقتها ثورات، ولكن هل تستعيد تونس اليوم انطلاقة ترسيخ أنجح التجارب في قراءة جديدة للمادة80 من الدستور التونسيّ؟
في القراءة السياسية يهدف الغموض البنّاء إلى إعطاء أكثر من بعد في التفسير، ولا يكون بنّاء في الغالب إلا للطرف القادر على فرض قراءته بقوّته، أمّا في الدساتير فالأمر يخضع لتفسير محدّد مقرون بتزمين وآليات تنفيذ، وقوى مجتمعية ودستورية ترصد وتحاسب وتصوّب، والقراءتان في تونس وخارجها، على عورهما، تتعارضان تماماً، فقراءة الرئيس، وهو دستوري، تعمل علىإنقاذ البلاد وإعادة التوازن المفقود، بفرض رؤية تمكّن دواليب الدولة من الانطلاق بعد سنوات من التعطيل، مقصوداً وغير مقصود، والانصراف للعمل وتنفيذ برامج الحكومة بعيداً عن المماحكات والسجالات المعطّلة، إذ تعمل بعض الأحزاب ليكون البرلمان أداتها في إدارة الدولة وفق رؤيتها التي تحقّق لها مكاسب آنيّة ومستقبليّة، لا وفق ظروف قاسية اقتصادية وصحية تعيشها تونس، ويكتوي بنيرانها أكثر الشعب. وأمّا العور المخيف في القراءة الرئاسية، كما يراه بعض التوانسة، فيكمن في مطبّ المرجعيّة المنوط بها الحسم، وهي المحكمة الدستورية التي لمّا تُخلق بعد، في الوقت الذي علّق عمل البرلمان، وجعل الرئيس من نفسه مدعياً عمومياً وقائداً عاماً للجيش والأمن، ويشرّع بمراسيم، وله السلطة التنفيذية، يعيّن من يشاء، ويقيل متى شاء، فصار بعد جمعه للسلطات خصماً وحكماً، وهو النازع للإمساك بدفّة البلاد، إذ صمت طويلاً في انتظار إنجاز التنسيق والاستعداد، على الأرجح -داخلياً وخارجياً- لإعلان المفاجأة.
وأمّا القراءة الثانية، فترى أن الوضع لا يستوجب تفعيل المادة 80، فلا خطر يهدّد البلاد، ووصفت ما يجري بالانقلاب على الشرعية، ونزوع للديكتاتورية، وربطه بدور إقليمي يُدخل تونس في حسابات مشاريع القوى المتصارعة على المنطقة، وكأنها لا تعيش الانهيار الذي قد تؤول إليه الدولة بفعل الوضع السياسي المأزوم، والضائقة الاقتصادية، وفشل القطاع الصحي إذ تصنّف تونس من الدول الأعلى نسبة لكورونا.
فإن كان انقلاباً كما يُقال، فالتونسيون أغلبهم فرحون بإنجازه، فهو ناعم لطيف وشعبويّ أيضاً، يقول بتخليصهم من الفساد ومحاسبة الفاسدين، وتدوير دواليب الدولة لتمكين الوطن من الاستمرار، لا تمكين طرف على حساب الوطن، وإن كان إصلاحاً كما يُقال، فزمن الاستثناء قصير، ويمكنه إعادة الجميع إلى الحوار، وقد بدأ يطالب به مَن كان يرفضه قبلاً.
انقسم التونسيون بين قراءتين، وانقسمت القوى العربية والإقليمية أيضاً، علماً أن هناك من تباكوا على الديمقراطية، واشتعلت المقارنات والمقاربات لأوضاع مشابهة في دول أخرى، وتناسوا أن تونس نسخة واحدة، وهناك مَن أعملوا ماكيناتهم الإعلامية تصطاد سمكاً بلا ماء، أو تصبّ زيتاً لتشعل حريقاً، ولن تفلح لأكثر من سبب، والقوى الدولية والمؤسسات العالمية من الأمم المتحدة والبنك الدولي ومنظمات حقوق الإنسان ووزارات خارجية الدول الفاعلة في العالم أبدت قلقها ومخاوفها، ودعت إلى الهدوء والحوار، والبعض ثارت نخوته فعرض العون.
ويبقى القدح المعلّى لأهل العرس، فهم مَن دفع الضحايا وصولاً للديمقراطية، وهم مَن سيعاني إن غُيّبت، ومهما يكن التسويغ، فمرفوض في عرفهم، وعلى عاتقهم يقع دعم التوجّه الديمقراطي المدني بالتمسّك بمنجزاتهم والدفاع عن مكتسباتهم، وهم مَن يزرع التفاؤل في دول خَبا ربيعها بفعل تدخّلات الآخرين، وهم أخيراً، ليسوا بحاجة للدروس التي تعلموها بنضالاتهم.
لا خوفَ على تونس، فمجتمعها المدني بمنظماته واتحاداته ونقاباته، هو الأنضج والأقدر على صدّ مَن يريد العبث بالديمقراطية أو وأدِها، أو ينقلب على الشرعية، وقواها السياسية فاعلة حيّة لم تُدجّن، وجيشها لم يستطع المستبدّون، من قبل، جرّه ليكون طرفاً في صراع الأحزاب والقوى السياسية.
تونس لا تشبه غير تونس.. ومَن يقِسْها على غيرها، فقد أخطأ رائحة ياسمينها.