بعدما تأكّد النظام أن المؤامرة الكونية التي تخيّلها، وصدّع بها الرؤوس، كانت لمصلحته، وتهدف بقاءه والمحافظة عليه، بسلوك معدّل أو بلا تعديل، انخرط بهلواناً في اللعبة، يبتزّ كلّ الأطراف المشاركة وصولاً لأهداف يريدها، ويراهن عليها مَن معه، والجميع يتخادمون باستدامته واستمرار شغبه، مادام يقوم بدوره الوظيفي، بل وتأكّد أن جميع المتصارعين يحتاجونه لتمرير إستراتيجيّاتهم في المنطقة، ومن هنا لم يعد وجِلاً ممّا يمكن أن يصيبه، فالحبائل المفخّخة يقع بها الآخرون دون المساس به، وحلفاؤه في المقدّمة.
بعد الانخراط في المقتلة السورية، ورسم حدود التوافقات الدولية والإقليمية فيها، بدأ الحراك الروسي المحموم للانقلاب على مضمون مقرّرات جنيف1 ومجلس الأمن 2118و2254 بقراءة تفرّغ القضية السورية والثورة من أُسس قوتهما، بمؤتمر أستانا المضمون روسياً وتركياً وإيرانياً، إذ وصل النسخة 16، وكان أخطر ما قُرّر في الجولة 4“مناطق خفض التصعيد”، إذ بدأت التحوّلات الخطيرة لصالح النظام وحلفائه من سقوط حلب ثم ريف دمشق وحصار إدلب وصولاً إلى حصار الجنوب مقدّمة لسحق المتبقّين من صامدي حوران بعد تسويات 2018 التي أُجريت بتوافقات إقليمية دولية وضمانة روسيّة.
فمن قتال إلى قصف إلى نزوح إلى تفاوض عبثي إلى اتفاقات ينقضها النظام، تدور أيام درعا بما فيها من خوف ومعاناة وحصار قارب الشهرين تفادياً لحسم عسكري لا ترتضي غيره عصابة القتل والتدمير، وهو ما دفع المحاصرين”11ألف عائلة” للمطالبة بالنزوح إلى مكان آمن، لأن كارثة إنسانية ستتحقق، ليس لفقدان مقومات الحياة وحسب، بل لأن المدنيين صاروا أهدافاً لنيران النظام وحلفائه. وهو –النظام- يريدها خرائب خاوية، ليتفاخر بنصره، ويدعم الانهيار الذي تعيشه حاضنته، ويتابع سياسته الأثيرة في التغيير الديموغرافي، ليكون وحلفاؤه مَن يقرّر مستقبل سورية.
منذ تموز 2018 وتسويات درعا برؤية الأسديين مؤقّتة أو مرحلية، وليس بحاجة لمسوّغات لنقضها أو تعديلها، وجاءت فرصة الانتقام لخروج درعاضد “الانتخابات الرئاسية“، وعودة شعارات إسقاط النظام، والفلتان الأمني والاغتيالات، فَجَلب ميليشياته وحاصر المنطقة وجوّع أهلها، بحجّة تسليم سلاح فردي، وأشخاص مطلوبين أو تهجيرهم، أو إجبارهم على التسويات معه، ما يعطي الانطباع إقليمياً ودولياً بعدم قدرة روسيا على ضبط الوضع، وهو ما يفسّر تحوّل الدور الروسي من ضامن إلى ضاغط لتحقيق مطالب التعجيز الأسدية، وصل إلى حدّ التهديد بإدخال الميليشيات الإيرانية، وقد أُشرِكت، تقوية لتمركزها مقابل دور ما في الاتفاق النووي مع أميركا، واستثماراً لتغيّر الوضع في “إسرائيل” بالتخلّي عن التفاهمات مع نتنياهو حول سورية والمنطقة، بدلالة الغضب والمطالبة بضبط الهجمات الجوية الإسرائيلية على الأراضي السورية، فيما إيران تقترب بميليشياتها أكثر من حدود الكيان الصهوني، وحدود الأردن الذي افتقد رئته الأسدية، تمهيداً لجولة ابتزاز روسية للأطراف جميعاً، وفرض قواعد اشتباك جديدة بينها.
لكل ما سبق، ترغب روسيا إخضاع درعا، بتناغم خفيّ رغم الخلاف الظاهر بينها وبين النظام وإيران، واستبدال تسويات الجنوب ومصالحاته بما يتناسب والوقائع الجديدة، تجنّباً لعملية عسكرية سينتج عنها دمار كبير واعتقالات وتصفيات للمناهضين للنظام بعد شرعنته“بالانتخابات”، واستقوائه بوهم انتصاره، بالإضافة للتوافق الأميركي الروسي، وتعثّر التوافقات مع تركيا في الشمال الغربي، وارتباك الوضع في الشمال الشرقي مع أميركا وحليفها قسد، ولا يغيب الدخول المفاجئ للصين على الخطّ السوري، وتلويح النظام بإمكانية الانقلاب لتوفّر الداعم البديل. ومن هنا موافقة روسيا الضمنية – رغم ما يظهر من إشارات عدم الرضا- على إحكامالنظام سيطرته على الجنوب لقطف ثمار تفعيل معبر نصيب مع الأردن، وتمديد العمل بآلية المساعدات الأممية “معبر باب الهوى”، والمعابر البينيّة والتعافي المبكّر، بالإضافة لتفعيل مشروع “الشام الجديد” الذي تعَدّ سورية تاجَه، وهو ما دفع عاهل الأردن لمناقشة الوضع السوري مع بايدن، ليصرّح بعد ذلك بأن “النظام باقٍ، وأن إعادة الإعمار-عبر ضخّ الأموال من الداعمين- ستشجّع اللاجئين على العودة”، في الوقت الذي يعمل النظام على تهجير مدنيي درعا، معتبراً رسالة ملك الأردن موافقة أميركية، لغضّ البصر عن بعض تفاصيل قيصر، وتشجيعاً عربياً لاستمرار سياسته، يستحقّ التطبيع معه، بل رآها مكافأة لكل ما قام به من جرائم بحقّ الإنسانية وتدمير وقتل واجتثاث للشعب السوري.
يبدو أن النظام قد قرّر أن تكون هديّة تتويج رئيسه سبعاً جديدة سحق درعا مهد الثورة، وأحد عناوين صمودها واستمرارها، تأكيداً لتأصّل طبائع الجريمة والوحشية، وتمريغاً للكرامة التي ما انفكت شعار الثورة السورية” الموت ولا المذلّة “، ومن هنا فإن مهد الثورة برؤية النظام يجب أن يكون لحدها.
ولأنها العين التي تقاوم المخرز، فلابدّ أن تقرأ الصراعات الإقليمية والدولية المتغيّرة سياسياً، وتجعل الجنوب موشوراً يعمل على تناقضاتها، وتفعيل ما يخدم المرحلة في تطوّر القضية الوطنية، يخدمها في ذلك عدم ارتهانها لقوى خارجية، وتعويلها على قدراتها الذاتية، وتوظيف موقعها الجيوسياسي والجيوإستراتيجي لجميع القوى المتصارعة في سورية وعليها لمصلحة استمرارها.. وانتصارها.