عادة ما يحاول كلّ منّا أن يرى في أبنائه، أو على الأقل في أحدهم، ما لم يستطع تحقيقه في نفسه، لذلك غالباً ما أحثّ ابني على الاستماع ومشاهدة كل ما له علاقة بالسياسة؛ لأني لا أريده أن يعيش فترة العمى السياسي الذي عشناها في شبابنا، ولحظات الرعب التي كانت تتملّكنا عندما كنا نفكر، مجرد تفكير، بما يتعلق بالسياسة. وكنت ألمس عنده استعداداً كبيراً للتجاوب مع دعوتي، وقد بدأ يناقشني في أمور تتعدى اهتمام من يكبرونه بأعوام، فتراه يوجّه لي مجموعات من الأسئلة، تتعلق بكل ما يجري حولنا من أحداثٍ سياسيةٍ أو اقتصاديةٍ، وبدأ يهتم كثيراً بما يهمنا جميعاً من أحداث، بل أصبح يشكّل رأياً خاصاً به، وأنا أشجعه، على الرغم من عدم نضوج كثير مما يطرحه، وأتعامل معه بكل جدية، وأجيبه عن كل ما يسأل بكل شفافية ومصداقية، وأحاول في كل مرة أن أعلمه شيئاً جديداً، وخاصة عندما سألني عن تغيير بعض الشخصيات المعروفة لمواقفها، وانتقالها من جانب إلى جانب، ومن طرف إلى طرف، وأعده بشرح كل ذلك لاحقاً. أذكر في إحدى المرات أنه حصل ودخل عليّ فجأة، وأنا في حالة انفعال وسألني: بابا أنت الآن يساري أم يميني؟ أجبته على الفور وبنبرةٍ عالية: يميني بابا يميني! سألني لماذا؟ قلت له: منذ ربع ساعة وأنا أبحث عن زوج من الجوارب، وجدت خمس جوارب كلهنّ يمين، لذلك أنا يميني، ففي زمن الفوضى الذي نعيشه في بيتنا، لا يكلفك التحوّل من اليمين إلى اليسار وبالعكس، سوى أن تجد ما تبحث عنه، وكذلك في وضعنا الفوضوي الذي نعيشه ويعيشه العالم من حولنا، أصبح من السهل جداً أن يتحوّل بعض البشر من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين، إن كان في السياسة أو الأخلاق، وحتى في الدين، في حال غياب العقل والوعي والمنطق، وسيادة الفوضى والانتهازية وتقديم المصلحة الفردية على مصالح المجتمع والوطن. فلا تستغرب يا بني، إن رأيت من كان في أقصى اليسار، والذي كان يدعو في خطاباته إلى الثورات وإلى التغيير الجذري في كل القوانين والأنظمة الموجودة في أي بلد أصيب بداء الفساد والإفساد، قد تحوّل إلى أقصى اليمين، وبدأ يدعو إلى تعزيز وتمكين النظام الموجود، وأن تُترك الأمور حتى تنضج ظروف التغيير ذاتياً. أو أن ترى رجل الدين الذي كان يرعد ويزبد من على منبره معدّداً أسباب ما نحن فيه من ضعف وهوان، قد تحوّل من أسد هصور إلى حمل وديع في حظيرة هذا الحاكم أو ذاك، ينتقل فيها من مائدة إلى مائدة، يتخيّر لمعدته ألذّ الأطعمة، مع أنه يعلم تماماً أنها مغموسة بالذلّ والمهانة، أو ذاك الذي استبدل كل ما كان يدعو إلى القيام على الحاكم واستبدال الحال الذي نحن فيه إلى حال مغاير بيده أو بلسانه أو بقلبه، والذي يراه أنه أضعف الإيمان، إلى السمع والطاعة، ولو أكل مالك أو جلد ظهرك. وترى كيف تحوّل من كان يعطينا الدرس بعد الدرس في الأخلاق والقيم والمبادئ، ويأمرنا بأحسنها قد تحوّل بين عشية وضحاها إلى آلة لا تنتج إلا قبيح القول، وتدعو صراحة إلى سوء الخلق، وتبرّر لجوءك إلى ذلك إن وجدت، أنها ملجؤك الوحيد لما أنت فيه!
سألني ابني بعدها: هل أفهم من كلامك أن الناس لا تتحوّل إلا إلى الأسوأ؟ أجبته بالنفي، فهناك الكثير ممّن عادوا إلى رشدهم، لكننا لا نذكرهم عادة؛ لأن ذلك هو الأصل في الإنسان السوي الذي اضطرته ظروفه أن يحيد عن الطريق القويم، فتراه يعود إلى جادة الصواب مع أول كارثة تصيب بلده، أو تجلب على شعبه الويلات والمهالك.
- كاتب سوري