شرعت الآمال في أن يكون الحكم الاستبدادي في السودان قد أصبح شيئًا من الماضي في التفكك. لكن روح التحدي لدى الشعب السوداني في مواجهة القوة العسكرية ما تزال قوية وملهمة. وقد ظهرت هذه الروح في نهاية الأسبوع الماضي، حيث اندلعت المظاهرات المناهضة للانقلاب في جميع أنحاء البلاد.
* * *
عندما اجتاح انقلاب عسكري لا يحظى بالشعبية السودان في الأيام الأخيرة، ذكّرني الحدث برؤية مختلفة لذلك البلد: الدولة الديمقراطية، حيث يمكن لعدد كبير من الأصوات التعبير عن نفسها بحرية بلا خوف من التداعيات.
من بعيد، بدا أن هذا هو المسار الذي كان البلد يسلكه بعد انتفاضة شعبية أطاحت بديكتاتورية الرئيس السابق، عمر حسن البشير، في العام 2019. وينبغي أن نكون نحن، في العالم الحر، بصدد فعل كل ما في وسعنا لمساعدة الشعب السوداني على العودة إلى السير مرة أخرى على ذلك الطريق.
في ملاحظاته الختامية في الأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) 2019، قال رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك: “في السودان الجديد، لن نسجن الصحفيين مرة أخرى أبدًا”. وقد تحدثنا معًا، هو وأنا، في حلقة نقاش حول الدور الذي يجب أن يلعبه المجتمع الدولي في دعم حرية الصحافة في الدول مثل بلده. وقال لي حمدوك: “أتمنى أن أراك في السودان. تعال واكتب تقاريرك من مجتمعنا. عن إخفاقاتنا وعن نجاحاتنا”.
كانت تلك لحظة متفائلة في تاريخ السودان الحديث. والآن، وشرعت الآمال في أن يكون الحكم الاستبدادي قد أصبح شيئًا من الماضي في التفكك. لكن روح التحدي لدى الشعب السوداني في مواجهة القوة العسكرية ما تزال قوية وملهمة. وقد ظهرت هذه الروح في نهاية الأسبوع الماضي، حيث اندلعت المظاهرات المناهضة للانقلاب في جميع أنحاء البلاد. وتشير التقارير إلى مقتل ما لا يقل عن ثلاثة متظاهرين بالرصاص في تلك الاحتجاجات.
قال لي الصحفي السوداني الأميركي إسماعيل كُشكش: “في العامين الماضيين، سمحت الدرجة الأكبر من حرية الصحافة للسودانيين بالتحاور ومناقشة مشاكلهم وتحدياتهم بطريقة أعمق وأكثر صراحة، وبما يتجاوز الشعارات وتبييض الصفحات”. لكنه أصبح يخشى من حدوث انتكاسات.
مؤخراً، تم حل حكومة حمدوك بمرسوم عسكري في 25 تشرين الأول (أكتوبر). وتم اعتقاله هو وعدد من وزرائه. وخلال أعمال العنف التي تلت ذلك، قُتل العديد من المتظاهرين، وتم القبض على صحفيين وإغلاق شبكة الإنترنت.
عندما التقيت حمدوك في الأمم المتحدة، كان من الواضح أنه لم يكن صاحب رؤية مثالياً ومتحمساً ساذجاً. كان يعلم أن السودان يواجه معركة شاقة للتقدم نحو الحكم الديمقراطي، ولم تكن لديه أي أوهام بشأن التحديات التي تقف في طريق البلد.
وقال: “إننا نعلم أن الديمقراطية عمل غير مكتمل. لا يوجد نموذج نهائي يمكنك أن تستورده فقط. أتمنى لو كان هناك واحد يمكنك أن تستخرجه من الورق فقط وتفرده. سوف تنهض المجتمعات وتسقط في هذه العملية، ونحن سعيدون بأننا نخوض هذه الرحلة بكل تحدياتها ومشاكلها”.
لكنه كان يراهن على التقدم، وكان يفهم -ولم أر أي مؤشر على أن موقفه قد تغير- أن التقدم يتطلب الشفافية. وهذا يعني احترام الأصوات المعارضة وحرية الصحفيين في الكتابة، والاستثمار في البنية التحتية التي تجعل حرية التعبير قابلة للاستمرار على المدى الطويل.
وكان هذا بالضبط عكس ما يدفع به المجلس العسكري والانقلاب بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان.
قال البرهان أثناء اعتقاله لمؤيدين للانتقال إلى الديمقراطية: “تم وضع بعض الأفراد في الحجز -أولئك الأفراد الذين يُعتقد أنهم يقوضون الوحدة الوطنية والأمن القومي. نحن لا نكمم الأفواه، إننا نحجب أي صوت يقوض تناغمنا الوطني بشكل مباشر”.
وكان من بين المعتقلين حمدوك وأعضاء حكومته ونشطاء ديمقراطيون وإعلاميون آخرون. وقد أُعيد حمدوك إلى منزله، على الرغم من أن آخرين ما يزالون رهن الاحتجاز. كما تمت مداهمة العديد من غرف الأخبار.
ربما كان الأمر الأكثر إثارة للقلق هو إغلاق الإنترنت في 25 تشرين الأول (أكتوبر) والتعطيل المستمر للاتصال عبر الشبكة العالمية. خلال رئاسة البشير، المشتبه بارتكابه جرائم حرب، من العام 1993 حتى العام 2019، كان السودان من بين الدول التي لديها أدنى مستوى اتصال بالإنترنت في العالم، بحسب شريف منصور، منسق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في لجنة حماية الصحفيين. وتقوم جماعات حقوق الإنسان ومراقبو حرية الصحافة بمراقبة تدفق المعلومات.
وقال لي منصور: “هذا هو ما نخشاه أكثر ما يكون. كان السودان من آخر المساحات الإعلامية المفتوحة المتبقية في المنطقة. ورؤية هذه الضربة الارتدادية هي علامة تنذر بالسوء بالنسبة للسودان والمنطقة”.
تعيش منطقة شمال إفريقيا في وضع هش، مع وجود حركات الديمقراطية في السودان وتونس على المحك. وهذه هي اللحظة المناسبة للتدخل لدعم حمدوك والديمقراطية، وضد حكم الرجل القوي المدعوم من بعض حلفائنا الإقليميين العرب في المنطقة.
وقال منصور: “كما رأينا من قبل، فإن أساليب الرقابة هذه هي السمة المميزة لحكومة تريد إخفاء أعمالها على الأرض، بما في ذلك الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان”.
على الرغم من الانتقادات المحقة التي توجهت إلى الحكومة الانتقالية في عهد حمدوك، “بالنسبة لغالبية السودانيين، يظل الانتقال إلى الديمقراطية هو الجائزة”، كما قال لي كُشكش. وأضاف: “أن تكون الاحتجاجات والتجمعات الكبيرة ضد الانقلاب قد انطلقت بسرعة وبشكل جماعي، فإن هذا يشير إلى أن الرغبة في التحول الديمقراطي، بالنسبة لمعظم السودانيين، تفوق الوعود التي قد يعرضها الجيش”.
لقد تذوق الشعب السوداني طعم الديمقراطية، وهو يريد المزيد. وقد يحاول البرهان وقواته طمس هذه الحقيقة، لكن التحدي الشعبي لاستيلاء الجيش على السلطة شرع في التخمُّر مسبقاً.
*جيسون رضائيان: كاتب رأي في زاوية “آراء عالمية” في الواشنطن بوست.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Sudan’s people have a taste of democracy and free expression. They want more.