لم يكن تفصيلاً غير مألوف، أياً كانت مقادير الإثارة التي اكتنفت سياقاته، أن يشهد مؤتمر غلاسكو حول المناخ سلسلة لقاءات جانبية لا صلة مباشرة تجمعها مع أحوال الطبيعة والاحتباس الحراري، بقدر ما تدور حول «مناخات» من طُرُز أخرى بين دولة ودولة، حول هذه أو تلك من المشكلات الجيو – سياسية أو الأمنية أو الاقتصادية أو التجارية؛ على شاكلة لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع رئيس دولة الاحتلال الإسرائيلي نفتالي بينيت (حول تطبيق التجسس «بيغاسوس» الذي استهدف هاتف الأول)؛ ولقاء الرئيس الأمريكي جو بايدن مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (بصدد ملفات شتى، في طليعتها الخلاف حول برنامج تطوير مقاتلة الـF-35)… وإذا كانت مسائل الاحترار الكوني بالغة التعقيد، عند المناقشة كما لدى البحث عن الحلول، فإن تفاهم هذا الزعيم أو ذاك مع نظيره هنا أو هناك ليس على حال مماثلة من الاستعصاء!
ولقد غادر الزعماء والقادة بعد أن استكملوا كل ما طُلب منهم بروتوكولياً، على صعيد التصريحات وإبداء حسن النوايا والتمنيات والتقاط الصور التذكارية؛ وكذلك، وربما الأهم، من حيث توظيف المؤتمر لأغراض التفاوض الثنائي، وخدمة المصالح القومية، وعقد المصالحات او التوصل إلى تفاهمات حول الخلافات الجانبية والنزاعات العالقة؛ وتركوا لرهط «الخبراء» مهمة اختراع نهايات سعيدة (من حيث المظهر والسطح، على الأقل) تبيض صفحة المؤتمر، حتى بواسطة ذر الرماد في عيون البشرية. ذلك لأن المطلوب المعلَن، أي الحفاظ على معدلات الاحتباس الحراري عند أقل من 2 درجة مئوية، فكيف بالذهاب إلى سوية أعلى من مخادعة الذات والعالم لجهة التطلع إلى 1,5 درجة مئوية؛ ليس غاية عسيرة المنال في الشروط الراهنة للمسموح والممنوع في خطط الدول الأكثر تلويثاً للمناخ، فحسب؛ بل هو إعلان كاذب أصلاً، زائف وديماغوجي.
راسخ في باطن الاستعصاء، إلى هذا وذاك، أن ما سيتوصل إليه مؤتمر غلاسكو لن يلقى نجاحاً أعلى من ذلك القصور الذي انتهى إليه مؤتمر مناخ باريس 2015؛ وليس لأن دولة ملوِّثة عظمى مثل الولايات المتحدة يمكن أن تحيله إلى محض حبر على ورق، كما فعل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حين انسحب كلياً من التزامات أمريكا بموجب المؤتمر، فقط؛ بل لسبب آخر أكثر سطوة: أن مقررات غلاسكو، وشقيقاتها مقررات باريس، ليست أصلاً ملزِمة للدول الموقعة عليها! في عبارة أخرى، ليس محظوراً على دول أخرى بين كبار الملوِّثين، أمثال الصين وروسيا والهند والبرازيل، أن توقع في غلاسكو صباحاً، وأن تمسح التوقيع مساء في بكين أو موسكو أو نيو دلهي أو برازيليا…
وضمن سياقات الحرص على ورقة تين من أي نوع، عقد المندوب الأمريكي إلى المؤتمر وزير الخارجية الأسبق جون كيري مؤتمراً صحافياً مع المندوب الصيني شي شينهوا، تم خلاله الإعلان عن اتفاق أمريكي – صيني مشترك يتوخى اختتام مؤتمر غلاسكو بمقررات تسبغ على أجوائه سمة النجاح والتفاهم. «قليل لا معنى له» أصدرت المنظمات المدافعة عن البيئة حكمها على الفور، مذكرة بأن التعهدات الراهنة لن تتكفل بخفض درجات حرارة الأرض إلى 2 مئوية أو حتى 1,5، لكنها تضمن ارتفاعها إلى 2,4 بحلول العام 2100، وربما أعلى أيضاً. هذا بافتراض أن بعض الدول، وليس جميعها غني عن القول، سوف تفي بتعهداتها فعلياً لجهة غاز الميثان والوقود الأحفوري وتركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي والتلويث في قطاع النقل خصوصاً (المسؤول عن ربع أحجام التلويث)؛ أو لجهة سداد ما التزمت به من مساعدات مالية للدول النامية والفقيرة كي تشرع في برامج بيئية مختلفة، على رأسها خفض الاحترار الكوني.
إلى جانب الملوِّثين الكبار على صعيد الدول المصنعة ذاتها، ثمة ذئاب مناخية لا تقل ضراوة وشراسة وجشعاً وتعطشاً إلى الأرباح والمليارات، هي الشريكة الأولى ضمن ما بات اليوم يستحق بالفعل صفة «الإبادة المناخية»
وتلك حال تجعل شعار «العدالة المناخية» الذي رفعه النشطاء على هامش مؤتمر غلاسكو واعتنقه عدد من مندوبي الدول الملوِّثة على سبيل النفاق وركوب الموجة، يصبح مفرَّغاً من أي مضمون فعلي تطبيقي؛ بل يجوز له أن يلتحق بمصائر التعبير الآخر الأعتق، أي «العدالة الدولية» من حيث استجماع الغبار على رفوف الإهمال والتجاهل. فإلى جانب الملوِّثين الكبار على صعيد الدول المصنعة ذاتها، ثمة ذئاب مناخية لا تقل ضراوة وشراسة وجشعاً وتعطشاً إلى الأرباح والمليارات، هي الشريكة الأولى ضمن ما بات اليوم يستحق بالفعل صفة «الإبادة المناخية» Climate Genocide، والتعبير ليس من ابتكار «المشبوهين المعتادين» في أوساط اليسار والدفاع عن البيئة، بل هو اقتراح الأمم المتحدة ذاتها في تقريرها الشهير المفزع الذي صدر مطلع آب (أغسطس) الماضي. أبرز خلاصات المذبحة أن تبدلات المناخ الأخيرة، والراهنة، لا سابق لها منذ قرون، و»آلاف عديدة» من السنين؛ واستقرار ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي أعلى في العام 2019 مما كان عليه خلال مليونَيْ سنة من عمر البشرية؛ ودرجة حرارة الأرض قفزت، منذ العام 1970، بشكل أسرع من أي زمن عرفته المعمورة منذ 2000 سنة على أقل تقدير…
الذئاب هؤلاء هم 20 شركة تعتمد على الوقود الأحفوري في استثمار، مسعور كما يجوز القول، لمكامن النفط والغاز والفحم في طول العالم وعرضه، وهي مسؤولة عن ثلث أنساق الإبادة المناخية في العصر الحديث. والأبحاث تشير إلى أنها مصدر 35% من الطاقة المقترنة بثاني أكسيد الكربون، بما يعادل 480 مليار طن. وهي تتراوح بين شركات مملوكة لقطاعات الدول هنا وهناك، أو خاصة قائمة على مبدأ الأسهم والاستثمارات، وأمثلتها الأبرز شركات مثل «أرامكو» و»شيفرون» و»غازبروم» و»إكسون» و»شركة النفط الإيرانية» و»النفط البريطانية» و»شيل» و»بترو الصين»… 12 من هذه الشركات تابعة للدول، وتنتج 20% من الانبعاثات، تتصدرها «أرامكو» السعودية المسؤولة وحدها عن 4,38% من حصص التلوث الكونية.
وكانت أبحاث أمريكية مستقلة قد اشارت إلى أن الانبعاثات، التي تتسبب فيها 90 جهة صناعية منتجة للكربون، مسؤولة عن نصف الارتفاع في درجات حرارة الكون، وبما يقترب من ثلث ارتفاع سطح البحر منذ العام 1880 وحتى 2010. وهذا يعني، كما يستخلص مايكل مان أحد أبرز مراقبي مخاطر احترار المناخ وانحطاط البيئة، أن أكثر من سبعة مليارات آدمي يدفعون يومياً ثمن جشع غير محدود يحكم سلوك الشركات الكبرى، في قطاع الدولة كما في القطاع الخاص. وما يزيد هذه الأوضاع سوءاً، وخطورة، أن الدول الغنية والمصنعة فشلت في تعهداتها لعام 2009 حول منح إعانات مالية إلى الدول الفقيرة والنامية بحلول العام 2020، وهي في سبيل فشل جديد يُنتظر له أن يعقب مؤتمر غلاسكو.
وإذا صح أن الرئيس الأمريكي صال في المؤتمر وجال، لأنه ببساطة ذكر الوفود بأنه خَلَف الرئيس الذي أبطل علاقة أمريكا بمسائل البيئة والمناخ على نطاق كوني، فإن تسعة أعشار خطاب إدارته حول تسعير الخصومة مع الصين أبطلها مندوبه إلى المؤتمر؛ الذي أقر، إلى جانب زميله الصيني، بأنه هنا «رجل المناخ» وليس مبعوث حقوق الإنسان أو مظالم مسلمي الإيغور، فهذه ليست على جدول أعمال المؤتمر. لا غرابة، بالطبع، لأن لكل مقام مقاله الخاص به من وجهة نظر وزير خارجية أسبق؛ وقد تكون هذه، على وجه الدقة، حال الناطقين باسم شركات «شيفرون» و»إكسون» و»شيل» لجهة أن الأرباح بالمليارات لا تجب مناسبات ذرف الدموع على البيئة، سواء صدرت عن مآقي تماسيح تارة أو ذئاب تارة أخرى… سيان!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
“القدس العربي”