في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، نُظمت احتفالات في عدد من دول العالم إحياءً لذكرى الشاعر الأميركي، جاك هيرشمان/ Jack Hirschman، عضو مجلس التنسيق العالمي لحركة “عالمٌ بلا جدران”، ومؤسس مهرجان سان فرانسيسكو للشعر، الذي توفي في لوس أنجلوس، في 12 من شهر أغسطس/ آب 2021.
طيلة ربع قرن، كان هيرشمان يطوف شوارع سان فرانسيسكو، يتعرّف على أزقتها، ويرتاد كل مقهى فيها، ليصبح بحقٍّ شاعر شوارع، ورحالة، لا يعرف الراحة.
ولد هيرشمان في 13 كانون الأول/ ديسمبر عام 1933 في حيّ برونكس في نيويورك. عمل في شبابه عامل طباعة في أسوشيتد برس. بدأ كتابة الأدب والشعر مبكرًا، وأرسل في عمر 19 عامًا قصةً إلى الكاتب إرنست همنغواي، فردّ عليها قائلًا: “لا أستطيع أن أساعدك أيها الشابّ. أنت تكتب أفضل مما كتبت عندما كنت في عمرك. يا للهول! أنت تكتب مثلي، وأنت لا تقترف ذنبًا بفعل ذلك. ولكنّك لن تذهب بعيدًا مع ما تفعله”. ترك هيرشمان الرسالة في وكالة أسوشيتد برس، وعندما انتحر همنغواي عام 1961، نشرت رسالته الشهيرة: “رسالة إلى كاتبٍ شابّ”، فعلم بها العالم أجمع.
صدرت أولى مجموعاته الشعرية عام 1960، بعنوان: “مراسلات الأميركيين/ A Correspondence of Americans”، كتب مقدمتها الشاعر الأميركي، ومستشار الشعر لدى مكتبة الكونغرس عام 1946، كارل شابيرو/ Karl Shapiro، وقال فيها: “كم هو جميل أن نجد شاعرًا لا يخشى البذاءة والسوقية، ولا يهاب المشاعر الجياشة، شاعرٌ يمكنه أن ينفجر ضاحكًا، أو أن يبكي بحرقةٍ شعرًا، الذي يستطيع أن يجعلك تحبّ اللغة، أو تدير لها ظهرك”.
ومن بين مجموعاته الأكثر شهرة: Black Alephs عام 1969، Lyripol (مدينة الأضواء) عام 1976، الخط السفلي/ The Bottom Line عام 1988، عتبة بلا نهاية/ Endless Threshold عام 1992، ومجموعة بعنوان Arcanes، تضمنت 126 قصيدة طويلة، وصدرت في إيطاليا في عام 2006.
في عام 1954، تزوج هيرشمان من روث إبشتاين التي عرفها في الثانوية، وأنجبا طفلين. حصل الشاعر على شهادة الدكتوراة عام 1961 من جامعة إنديانا، وشغل في خمسينيات وستينيات القرن الماضي منصب بروفيسورٍ في كلية دارتماوث التي تتبع جامعة كاليفورنيا/ لوس أنجلوس، حيث كان من ضمن تلامذته جيم موريسون، الذي سيؤسس ويقود في ما بعد واحدةً من أشهر فرق موسيقى الروك “The Doors”.
جاءت حرب فييتنام، أو حرب الهند ـ الصينية الثانية، لتضع نهايةً لمسيرة هيرشمان المهنية. فعلى خلفية تشجيعه الطلاب المعارضين للحرب، ومساندته لهم، قامت الجامعة بطرده من عمله، ليتفكك زواجه الأول، وينتقل عام 1972 إلى مدينة سان فرانسيسكو.
أسلوبه الشعري.. إرثه الأدبي والثقافي
عُرف هيرشمان بمواقفه الراديكالية في الشعر، كما في السياسة. كان عضوًا في اتحاد شعراء الشوارع، الذي كان الناشطون فيها يوزعون منشوراتٍ شعرية في الشوارع. كما لعب دورًا مركزيًا في إنشاء اتحاد كتاب سان فرانسيسكو اليساريين.
من حيث الأسلوب الشعري، يرى بعض النقاد أنّه يمكن مقارنة هيرشمان بشعراء مثل: والت ويتمان Walter Whitman، هارولد كرين Harold Crane، شاعر ويلز، ديلان توماس Dylan Thomas، وألان غينسبيرغ Allen Ginsberg. وأخيرًا، توِّج هيرشمان كـ”أحد أكثر الأصوات الشعرية اليسارية إنتاجاُ وثباتًا”.
نشر هيرشمان أكثر من 100 كتاب شعرٍ، كان نصفها كتبًا مترجمة لشعراء يساريين أجانب ينتمون إلى قومياتٍ مختلفة، منهم: السلفادوري روك دالتون/ Roque Dalton (من الإسبانية)، الهاييتي رينيه ديبيستر/ René Depestre (من الفرنسية)، بيير باولو بازوليني/ Pier Paolo Pasolini من (الإيطالية)، الشاعرة والممثلة اليونانية كاترينا غوغو/ Katerina Gogou (من اليونانية)، يوسف جيرفالا (ألبانيا)، الألمانية سارا كيرش/ Sarah Kirsch (من الألمانية)، اللاتفي هيرش كليك، السوفييتي فلاديمير ماياكوفسكي (من الروسية)، يان سلاورهوف/ Jan Slauerhoff (هولندا).
وعلى الرغم من الشهرة التي حظي بها في أميركا (وخاصةً في سان فرانسيسكو)، فإنّ شهرته الأدبية الحقيقية كانت في أوروبا، حيث كانت تنشر فيها كثير من أعماله الأصلية وترجماته الشعرية، لدرجةٍ أطلق عليه في فرنسا لقب “أهم الشعراء الشيوعيين”.
في حوار معه، اعترف هيرشمان بأنّ بداية انخراطه في العمل السياسي جاءت بعد قراءته قصائد شاعر الثورة البلشفية فلاديمير ماياكوفسكي، وكذلك من خلال علاقاته وصداقته مع ما عرف بفرقة الروك المشهورة بـ”الخفافيش”. وذات مرّة صرح هيرشمان قائلًا: “ماياكوفسكي هو أول شعراء الشوارع، وهو من لفت انتباهي حقًّا، وشدّني إليه”!
من قصائد جاك هِيرشمان
أنت تعرف ما أقول
ترجمة: سعدي يوسف
أنْتَ تَعرِفُ ما أقولُ
كم من أبناء وبناتِ
كلِ المئاتِ من الرجال والنساء في الكونغرس
يحاربون في العراق؟ اثنان.
حسنًا، إنه لَجيشٌ تطوُّعيّ
ورجالُ الكونغرس ونساؤه، ذوو الصفقات والاستثمار الخاص
معظمُهم ذوو ملايين . أنت تعرف ما أقول.
ليس على أولادهم أن يأخذوا غسيلًا عسكريًا
لأنهم متّسخون بالعنصرية
مخترَمون بمخافة السجن
مطارَدون بالبؤس، مثل الـ20 في المئة من الأميركيين الأفارقة في القوات المسلحة
(الأميركيون الأفارقة يمثلون 12 في المئة فقط من السكان)
أو مثل نسبة اللاتينيين الثقيلة
والفقراءِ البيض أيضًا
يتلقّون الأوامرَ، ويحاربون في بلادٍ
نصفُ سكانها أطفالٌ في الخامسة عشرة أو أقلّ.
أنت تعرف ما أقول.
أمّا أنا، فالمفترَض فيَّ أن أكون وطنيًا
أؤيِّـدُ اندفاعةَ السيطرة على العالَم من جانب عصابة رؤوس الموت
الطافية يوميًا مع كل فسادها الأخلاقي
على قنوات يأسنا.
الرعبُ النووي أيقظَ الإله من موته،
والحروبُ المقدسةُ تتلاحظُ في خضمّ أكاذيبها،
بينما الأطفالُ هنا، والأطفالُ هناك
مطحونون حتى عروقِ ابتساماتهم البريئة التي لا تزال ممكنةً.
وفي رؤوسهم الصغيرة
في عتباتهم
وفراشهم
يتمنون لو دفنوك أيها القاتل الخسيس
جزاءَ ما ارتكبتَه بحقّ الأطفال الذين آذيتَهم،
ولسوف يُهيلون وسَخًا سعيدًا على جثتك.
أيها السيد الرئيس. أنت تعرف ما أقول!
“ضفة ثالثة”