أزمة اللاجئين على الحدود البيلاروسية البولندية
مقدمة
من غير المؤكد كيف استطاع اللاجئون الوصول إلى بيلاروسيا البعيدة عن سورية والعراق أكثر من 2000 كم، وكيف وصلوا إلى حدود بولندا مع بيلاروسيا. والسؤال الآخر هو كيف ولماذا فتحت بيلاروسيا أمام هؤلاء اللاجئين الطريق إلى حدود بولندا؟ ومن هو المستهدف بهذا “التسامح” الإنساني غير العادي لمساعدة لاجئين للعبور إلى بولندا ومن ثم إلى الاتحاد الأوروبي؟ وما هو دور روسيا الحليف الأهم وربما الوحيد لبيلاروسيا؟ وأخيرًا هل انتهت الأزمة بقرار بيلاروسيا إعادة اللاجئين إلى داخل البلد، وتوفير أبنية فيها بعض الخدمات والتدفئة، والسماح لبعضهم بالمغادرة والعودة إلى الدول التي أتوا منها؟
الأسئلة كثيرة حول هذه الأزمة، غير المستقلة عن سلسلة أزمات تضرب العلاقات الدولية عمومًا، والعلاقات الروسية الغربية والأميركية، والعلاقات السيئة جدًا بين بيلاروسيا مع الغرب، ومع بولندا ودول بحر البلطيق، ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا، أي أعضاء حلف الناتو الجدد نسبيًا، فضلًا عن ارتباط هذه الأزمة بالمأساة الإنسانية التي ضربت سورية خلال السنين العشرة الأخيرة، بسبب توحش النظام الأسدي ودعم حلفائه روسيا وإيران له، وتحوّل قضية المعاناة الإنسانية بحد ذاتها إلى مادة تجارة على موائد المساومات بين الدول المشتبكة بالصراع فوق سورية.
سنحاول في هذه القراءة الإحاطة -باختصار قدر الإمكان- بظروف وملابسات أزمة اللاجئين بين بيلاروسيا وبولندا، ضمن سياق العلاقات الدولية والإقليمية، وبانعكاسات كل ذلك على الوضع السوري واللاجئين السوريين.
كيف وصل اللاجئون إلى حدود بيلاروسيا مع بولندا؟
لا تتوفر معطيات دقيقة حول عدد اللاجئين الذين تجمعوا على الحدود بين الدولتين، بهدف الدخول إلى بولندا، ومن ثم دخول منطقة الاتحاد الأوروبي، حيث يصبح انتقالهم إلى أوروبا الغربية وطلب اللجوء ممكنًا. لكن المرجح من مختلف المصادر أن العدد يصل إلى بضعة آلاف من اللاجئين، غالبيتهم عراقيون وأفغان وسوريون، إضافة إلى عدد أقل من دول آسيوية أخرى.
بشكل عام، تشير معطيات قوة الحدود الأوروبية المشتركة إلى دخول حوالي خمسة آلاف بشكل غير قانوني، عبر حدود دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي، من بداية عام 2021 إلى تشرين الأول/ أكتوبر، أي إلى قبيل هذه الأزمة، غالبيتهم عراقيون 3868، و590 أفغانيًا، و265 سوريًّا، و207 من الكونغو، و182 من روسيا.

التقارير المعتمدة عند الأوروبيين[1] هي أن مسؤولين بيلاروسيين وشركة الطيران البيلاروسية الحكومية “بيلافيا”، وشركة خطوط الطيران السورية، وشركة “أجنحة الشام” للطيران السورية الخاصة، وشركات طيران بيلاروسية وشركات أخرى، كلهم متورطون في نقل جزء كبير من هؤلاء اللاجئين من سورية والعراق ومن الإمارات العربية المتحدة إلى بيلاروسيا، وبتسهيلات خاصة قدمتها حكومة بيلاروسيا في أثناء دخولهم للبلد. ولهذا السبب، ضمن سلسلة العقوبات الأوروبية الجديدة ضد نظام لوكاشينكو، دكتاتور بيلاروسيا، تمت إضافة هذه الجهات إلى قائمة المعاقبين من قبل الاتحاد الأوروبي. علمًا أن شركة بيلافيا كانت تحت العقوبات الأوروبية وممنوعة من دخول أجواء الاتحاد الأوروبي، قبل اشتعال أزمة اللاجئين الحالية. وتشير تقارير[2] أخرى إلى قدوم اللاجئين عبر مطارات بغداد، وبيروت، ودبي، وإسطنبول، وأنطاليا، وموسكو.

لماذا بيلاروسيا؟
بيلاروسيا دولة صغيرة نسبيًا، من حيث عدد السكان، حوالي 9 ملايين نسمة، وذات اقتصاد ضعيف يعاني مشكلات كبيرة، ويعاني البيلاروسيون بسبب مستوى الحياة المتدني. وموقع بيلاروسيا شديد الأهمية جيوسياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا ما بين روسيا وبين حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. فهي تحدّ روسيا من الشرق، وأوكرانيا من الجنوب، وكذلك تحدّ بولندا وليتوانيا ولاتفيا أعضاء حلف الناتو الجدد نسبيًا، ومقاطعة كالينينغراد أوبلاست الروسية؛ أي أن بيلاروسيا تسيطر على خط التواصل البري الوحيد بين روسيا وبين مقاطعة كالينينغراد على بحر البلطيق، وتشرف على منطقة سوالكيغات التي تمثل خط الاتصال الوحيد البري بين حلف الناتو عبر بولندا، وبين دول البلطيق الثلاث ذات العلاقات المتأزمة مع روسيا وبيلاروسيا (انظر الخريطة المرفقة).

ومن ناحية ثانية، يمرّ عبر روسيا خطوط نقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى الاتحاد الأوروبي، باستطاعة حوالي 55 مليار متر مكعب سنويًا، أي أن بيلاروسيا ثاني أكبر ممر بري لأنابيب الغاز الطبيعي، من روسيا إلى أوروبا، بعد أوكرانيا التي يمر عبرها خطوط نقل باستطاعة 155 مليار متر مكعب سنويًا.
من الناحية السياسية، ترزح بيلاروسيا تحت حكم دكتاتوري، وفق النمط السوفيتي القديم، بقيادة ألكساندر لوكاشينكو، الذي يحكم البلد منذ إعلان تأسيس بيلاروسيا عام 1994 إلى الآن، ولنا أن نتخيل ماذا يعني ذلك في مجال قمع الحريات والاعتداء على حقوق الإنسان والفساد وسوء الإدارة. علاقات بيلاروسيا السياسية الخارجية غير مزدهرة مع كثير من دول العالم، ومتوترة دائمًا مع دول أوروبا الشرقية، بالذات مع بولندا ودول البلطيق، وكذلك مع دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية؛ على حين أن علاقاتها جيدة جدًا مع روسيا وحلفاء روسيا الإقليميين، بالإضافة إلى دول الاتحاد السوفييتي السابق في وسط آسيا، وكذلك لبيلاروسيا علاقات جيدة مع نظامي سورية وإيران.
تعتمد بيلاروسيا بشكل كبير جدًا على علاقاتها التاريخية مع روسيا، وعلى دعم فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي، للوكاشينكو ونظامه، خاصة أن لوكاشينكو هو الحليف الوحيد المحافظ على قوته نسبيًا، ما بين روسيا ودول حلف الناتو المتوسع، بعد وقوع أوكرانيا بأزمتها المستمرة منذ 12 سنة. ومع ذلك، هناك أزمات ومشكلات كانت تقع أحيانًا بين الزعيمين، لكنها تتراجع سريعًا تحت ضغط حقيقة أن بلديهما يواجهان الخصوم نفسهم، وربما الأعداء السياسيين، إقليميًا ودوليًا. وكنتيجة لذلك يمكن القول إن لروسيا تأثيرًا كبيرًا وأساسيًا على سياسة بيلاروسيا، بالرغم من التعثرات على الطريق.
وبلغ الأمر أن الكرملين الروسي أرسل رسائل عدة لبيلاروسيا، كي تنضم إلى روسيا الفيدرالية، في نهاية عام 2019 وبدايات 2020، ومارست روسيا الضغوط لتحقيق هذه الفكرة، والهدف الأساسي كان منح بوتين التبرير التشريعي اللازم لاستئناف رئاسته لروسيا التي ستنتهي في 2024، فانضمام بيلاروسيا للفيدرالية الروسية سيصفّر عداد سنوات رئاسة بوتين لروسيا، وبذلك يستطيع حكم روسيا 20 سنة أخرى[3]. لكنه يبقى طلبًا شديد الصعوبة على حاكم حكم بلده 25 سنة حكمًا شموليًا مطلقًا مثل لوكاشينكو. في كل الأحوال، بسبب تزايد الضغوط على روسيا وبيلاروسيا، أعلن البلدَان سلسلة اتفاقيات بالشهور الأخيرة تزيد من ترابط علاقاتهما الاقتصادية والسياسية، وسيستفيد منها لوكاشينكو بشكل مباشر أكثر مما قد تستفيد روسيا على المستوى الاقتصادي والسياسي.
بيلاروسيا والغرب
توتر العلاقات بين بيلاروسيا والغرب لا يعود إلى أن الغرب يتحرك فعلًا وفق مسطرة حماية حقوق الإنسان وفساد النظام الحاكم في بيلاروسيا؛ فغالبية حكومات أوروبا الشرقية التي ضُمّت إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو تعاني حالة فساد تقارب مستوياته في بيلاروسيا، وإن كانت بيلاروسيا تحتفظ بسجل انتهاكات حقوق الإنسان أسوأ بكثير من باقي حكومات أوروبا الشرقية.
من ناحية ثانية، يعود توتر العلاقات البيلاروسية الغربية إلى توتر علاقات الغرب بروسيا، خاصةً منذ استلام بوتين للحكم في روسيا، فهو رفض الانصياع الكامل لشروط الدول الغربية المجحفة بحق روسيا، والتي قبلت مثيلاتها دول أوروبا الشرقية. فاتخذت العلاقات مسارات تصعيد التوتر بين الجانبين خصوصًا مع توسع حلف الناتو باتجاه الشرق اقترابًا من حدود روسيا، ونشر منظومات الصواريخ الأميركية في أوروبا الشرقية وصولًا إلى دول البلطيق، ذات الموقع الحساس جدًا بالنسبة إلى روسيا.
لكن مع ذلك، فإن نظام لوكاشينكو لم يوفّر أيضًا حجة انتهاكات حقوق الإنسان في بيلاروسيا، ليضيفها إلى القائمة الغربية ضد بلاده.
ففي 23 أيار/ مايو، هذه السنة، قامت المقاتلات البيلاروسية من طراز ميج بعملية قرصنة جوية[4]، أجبرت بها طائرة الخطوط الجوية (ريان إير 4978)، التي كانت متوجهة من أثينا-اليونان إلى فيلونيوس-ليتوانيا، على الهبوط في مينسك عاصمة بيلاروسيا، لاعتقال الصحافي المعارض البيلاروسي رومان بروتاسيفتش وصديقته صوفيا سابيغا المعارضة الروسية. وقد اشتعلت وقتها الاحتجاجات الدولية على الحادثة التي تهدد سلامة الطيران المدني حول العالم، وأضافت الدول الغربية عقوبات جديدة على بيلاروسيا. لكن بوتين تقدم وتبنى قضية لوكاشينكو مرة أخرى ودافع عن سلوكه، وأعلن تأييده له.
سلاح اللاجئين
ليست هذه أول مرة تستخدم فيها الحكومات أو الحكّام سلاح التهديد باللاجئين. ففي كتاب كيلي غرينهيل Kelly M. Greenhill: (سلاح الهجرات الضخمة)، تقول الكاتبة، وقد قامت بدراسة ظاهرة التهديد بإرسال المهاجرين أو اللاجئين ورصدها، إنه لم تكد تمر سنة منذ خمسينيات القرن الماضي لم يحصل فيها أزمة تهديد أو تنفيذ إرسال مهاجرين ولاجئين عبر الحدود، لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، وتضيف الكاتبة أن ثلاثة أرباع هذه الأزمات أدت إلى تحقيق الأهداف المنشودة، كليًّا أو جزئيًّا. فعلى سبيل المثال، في عام 1980، بعد تصاعد الضغط الأميركي على كوبا، نفذ الزعيم الكوبي وقتها فيدل كاسترو تهديده بإرسال المهاجرين إلى الولايات المتحدة، وفعلًا انتقل حوالي 150 ألف مهاجر كوبي إلى الشاطئ الأميركي، خلال أيام فقط. وقد اشتُهر عن معمر القذافي استخدامه لسلاح المهاجرين أمام الأوروبيين، مرات عدة، فكان في كثير من الأزمات يهدد بفتح الحدود أمام طالبي الهجرة واللجوء الأفارقة، كي يصلوا إلى شواطئ أوروبا الجنوبية، وقد أفلح مرات في اقتلاع مكاسب أمام الأوروبيين.
في نهاية عام 2016، أطلقت إيران تحذيرًا بأنها ستفتح الأبواب لكي يتحرك اللاجئون الأفغان الذين يقيمون على أراضيها، وعددهم يُقدّر بثلاثة ملايين، باتجاه أوروبا، إذا ما زادت الولايات المتحدة الضغوط عليها[5]. وأعادت هذا التحذير مرات عدة لاحقًا، مع تصاعد التوتر الأميركي الإيراني. وعلى الطرف الأميركي أيضًا، كان ترامب أحد أشهر من تلاعب بموضوع المهاجرين، في دعايته الانتخابية في عام 2016، وبعد تسلمه الرئاسة، أصدر عددًا كبيرًا من القرارات التي تقيد حركة السفر نحو الولايات المتحدة الأميركية، بدعوى حماية الدولة الأميركية.
وفي المأساة السورية الممتدة منذ عشر سنين، كان أول سلاح استخدمه النظام السوري هو تهجير السوريين الرافضين سلطته، سواء أكانوا من الذين تظاهروا ونشطوا أم من الذين صمتوا وراقبوا. وبالنتيجة كان موضوع اللاجئين السوريين محلّ تعقيدات سياسية في دول الجوار. وفي أوروبا، بعد موجة اللجوء عام 2015، أصبحت ورقة اللاجئين والمهاجرين وأيضًا المسلمين أهمّ ورقة استغلتها الأحزاب السياسية اليمينية المتشددة والمتطرفة في الوصول إلى السلطة. وقد رأينا كيف أن إنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية الأقوى خلال الخمسين سنة الماضية، خسرت الكثير بسبب موقفها الإيجابي من اللاجئين.
ما المختلف بأزمة اللاجئين بين بيلاروسيا وبولندا؟
طبعًا لا بد أن نتذكر، ونحن نقرأ سريعًا استخدام البشر الأبرياء في صراع الحكومات والقوى حول العالم كسلاح ضغط، أن انتشار هذا الاستخدام غير الأخلاقي وغير القانوني لا يعني أن الممارسة صارت أمرًا عاديًا مقبولًا.
لكن ما يزيد من خصوصية ما حصل على حدود بيلاروسيا، هو أن هذه هي أول مرة تقوم فيها حكومة دولة باستيراد المهاجرين واللاجئين إلى أراضيها، بهدف إرسالهم إلى دول أخرى قريبة منها. ففي كل الحوادث التي حصلت سابقًا، كان اللاجئون والمهاجرون غير الشرعيين يتخذون أقصر الطرق وأسلمها نسبيًا باتجاه البلد المقصود. إلا أن ما حصل في بيلاروسيا هو أن المرور عبر بيلاروسيا إلى الاتحاد الأوروبي ليس خيارًا معقولًا في عملية اللجوء. فالطرق التي تؤدي إلى أوروبا تمرّ إما عبر ممر تركيا، ومن خلالها مرّ غالبية اللاجئين منذ 2015، وإما عبر البحر الأبيض المتوسط. بل حتى من أراد الدخول لأوروبا الغربية جوّا اتخذ مسار السفر إلى إحدى دول أوروبا الشرقية المنطوية في الاتحاد الأوروبي، لأن الفيزا لهذه الدول تكون عادة أقل صعوبة بكثير، وأكثر قابلية لتقبل الطرق غير القانونية في تحصيلها.
الناحية الثانية هي أن تسرب اللاجئين عبر حدود دول أوروبا الشرقية ضمن الاتحاد الأوروبي لم يتوقف، لكن الأعداد كانت قليلة، كما بيّنا سابقًا، وبمجموعات صغيرة، ومن خلال منافذ عدة، أقلّها عبر بيلاروسيا، فالغالبية كانت عبر بلغاريا ورومانيا. لكن ما حصل الآن من تجميع لبضعة آلاف من اللاجئين وخروجهم جماعيًا خلال أيام معدودة إلى الحدود مع بولندا وفي الأراضي البيلاروسية يؤكد أن العملية كانت عملية “استيراد” للاجئين بتخطيط حكومي رسمي، ولتحقيق أهداف سياسية واقتصادية من خلال ابتزاز الأوروبيين.
هدف بيلاروسيا من الأزمة
تتشابك مصالح عدة لدى الحكومة البيلاروسية، خاصة أن زيادة العقوبات الاقتصادية عليها، خلال الشهور الماضية، زاد مشكلات اقتصادها المنهك أساسًا، فأصبحت على خط “لن يكون أسوأ مما كان” في علاقتها مع الغرب. وبحسب تجارب التاريخ القريب، فإن التهديد بسلاح موجات اللجوء الضخمة حقق نجاحات لمن استخدمه، فالمغامرة لا تبدو خاسرة بأسوأ أحوالها، إن لم تنجح بابتزاز الأوروبيين لدفع أموال وتخفيف العقوبات، فهي لن تخسر شيئًا من جهة الاتحاد الأوروبي. ومن ناحية ثانية، تُعدّ علاقات بيلاروسيا وروسيا بدول البلطيق وبولندا هي العلاقات الأسوأ مع أوروبا الشرقية، وبولندا بالذات من أكبر معارضي خط الغاز البحري الروسي الجديد، نورد ستريم 2 باستطاعة 55 مليار متر مكعب سنويًا، الذي يعد بإيصال الغاز إلى ألمانيا دون المرور بأراضي أي دولة ثالثة. فالضغط على بولندا ودول البلطيق بحد ذاته مكسب سياسي كبير بالنسبة إلى لوكاشينكو وكذلك بالنسبة إلى بوتين.
كذلك لمحت بيلاروسيا إلى إمكانية استخدام سيطرتها على ثاني أكبر خطوط نقل للغاز الطبيعي إلى أوروبا، للرد على عقوبات الأوروبيين الاقتصادية. خاصة أن أوروبا الآن في وضع شديد الحساسية، بعد أزمة الغاز الطبيعي والوقود في أوروبا خلال الشهور الماضية، إذ أدى ذلك إلى ارتفاع ملحوظ في أسعار الطاقة في دول أوروبا الغربية. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن هذا مجرد تهديد، والأوروبيون يصدقون أن بوتين لن يغامر بأن يسمح للوكاشينكو باستخدام خطوط الغاز الطبيعي كورقة ضغط سياسي، لكنها طبيعة لعبة الصراع الدولي.
على الجانب الخلفي، يقف بوتين سعيدًا ومراقبًا مغامرات لوكاشينكو أخيرًا، التي لن تكون الأخيرة. فهو يريد تقديم نفسه للأوروبيين على أنه المنقذ الوحيد لهذه الأزمة بسبب علاقته القوية بلوكاشينكو، والأوروبيون يدركون أن مفاتيح اللعبة في يد بوتين. ومما يؤيد ذلك أن الحكومة الروسية لم تتوقف عن التهديد المبطن باللاجئين السوريين تجاه أوروبا، من خلال محاولات بوتين اليائسة للوصول إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي لتمويل إعادة البناء في سورية بإشراف روسيا، مقابل إعادة اللاجئين السوريين في أوروبا، الذين تجاوز عددهم مليونًا ومئتي ألف لاجئ. لكنه كان يجابه كل مرة برفض حاسم خاصة من قبل المستشارة الألمانية ميركل[6]. بطريقة أو أخرى، يذكرنا ذلك بالألعاب التي مارسها حافظ الأسد في لبنان، بخصوص قضايا كثيرة حول اختطاف غربيين خلال الحرب الأهلية اللبنانية.
هل انتهت الأزمة؟
على الرغم من أن بيلاروسيا أعلنت أنها ستسمح لمن يرغب في العودة للدول التي أتوا منها، وقد غادر حسب التقديرات بضع مئات، وأنها ستمنح الباقي ملاجئ مجهزة بالتجهيزات الأساسية، ومنها التدفئة في هذا الجو البارد على مسافة غير بعيدة من الحدود البولندية، وفعلًا فقد أكدت بولندا أن الشريط الحدودي أصبح خاليًا من التجمعات الكبيرة للاجئين[7]؛ إلا أن ذلك لا يعني أن الأزمة قد انتهت.
ما حصل هو تدخل قوي من قبل المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل، ووعود معلنة وغير معلنة قدمتها للنظام البيلاروسي أدّت إلى حلحلة الأزمة مؤقتًا. فحسب المعلن وعدت ميركل بمناقشة الموضوع مع الشركاء الأوروبيين، وربما بفتح ممر إنساني للاجئين. لكن المرجح أيضًا أنها قد تكون قدمت ضمانات مالية على الأقل للتكفل بتكاليف إبقاء اللاجئين في منشآت خاصة في بيلاروسيا.
من الصعب أن نتخيل أن ميركل ستنجح بإقناع حتى حكومتها باستقبال بضعة آلاف إضافيين، أي المقيمين على حدود الأزمة حاليًا، فما بالك بإقناع الشركاء الأوربيين. لكن يمكن ترجيح أنها تريد تهدئة الأوضاع حاليًا وإخراجها من ساحة الإعلام للتعامل مع الأزمة بهدوء وتدريجيًا، مع الالتزام بتحمل مصاريف اللاجئين في بيلاروسيا. مع محاولتها ضمان ألا تتكرر هذه الابتزازات تجاه الأوروبيين مستقبلًا، خاصة مع زعيم مثل لوكاشينكو أصبح بوضع يسمح له باستخدام كل الأساليب، ما دامت خساراته وصلت أقصاها مع الغرب، والزعيم الروسي يدعمه بكل الأحوال.
ماذا عن اللاجئين؟
المؤكد حتى الآن وفاة 11 شخصًا على الأقل[8]، خلال الأسابيع الأخيرة، وبعض التقديرات تذكر 13 ضحية، والأصغر طفل بعمر سنة واحدة. لكن المؤسف -كما هي عادة الصراعات الدولية- أن هؤلاء المساكين ليسوا أكثر من ورقة من أوراق اللعب على موائد القمار السياسية. لا يُعرف بالضبط أعداد اللاجئين وجنسياتهم، لكن الراشح أن غالبيتهم سوريون وعراقيون ويمنيون وأفغان. فلم يكن مفاجئًا أن النظام الأسدي لم يحاول أي شيء حتى من قبيل السؤال لدى الحكومة البيلاروسية، على اعتبار أنه واحد من الحكومات القليلة حول العالم التي تمتلك علاقات ممتازة بالنظام البيلاروسي. والمؤسف أننا أيضًا لم نسمع بجهود حقيقية حاولتها الجهات المعارضة السورية للتواصل أو الاستقصاء عن حال السوريين بين هؤلاء اللاجئين المعلقين الآن بين السماء والأرض، بانتظار حسم مصيرهم.
الخاتمة
هذه الأزمة الإنسانية بعمقها هي بالواقع مجرد فصل جديد من فصول الصراع بين حكومات الدول، الصراع الذي يزداد بشاعة وانحطاطًا أخلاقيًا. فلا بيلاروسيا كانت أساسًا ملجأ للاجئين، حيث يبحث سكانها أنفسهم عن بلاد لجوء بسبب دكتاتورية وفساد نظامها برئاسة لوكاشينكو. ولا بولندا أيضًا تمثل مطمعًا كبلد للجوء، فلا حكومتها ولا سياسيوها اليمينيون مستعدون لمناقشة الفكرة، ولا حالتها الاقتصادية تساعدها في أن تكون مستقرًا للاجئين. لكن الحقيقة المرّة تبقى، وهي أنها ليست المرة الأولى التي يتم استخدام اللاجئين عمومًا، واللاجئين السوريين خصوصًا، كأوراق ضغط بين حكومات الدول في خضم صراعاتها المتزايدة والمتصاعدة. والمؤكد أن الأزمة لم تنتهِ الآن، لكنها وضعت بحالة جمود بانتظار البحث عن حلول مؤقتة.
قد لا يكون لهذه الأزمة تأثير مباشر سياسي على الوضع السوري، إذا أخذنا بمنهج القراءة السياسي السائد الذي لا يرى معاناة الناس العاديين، بقدر ما يرى انتصار وهزيمة هذا الطرف أو ذاك. لكن تأثيرها غير المباشر سيكون واضحًا في السنوات القادمة، حيث كانت المأساة السورية هي الحدث الأكبر الذي فجر بارنويا الخوف من اللاجئين والمهاجرين في أوروبا بعنف غير مسبوق. ومع الأسف إن شهرة السوريين على المستوى الدولي أصبحت مرتبطة باللجوء والهجرة غير القانونية، بدل أن يسير تاريخهم بالصعود كدولة تحقق تطورها ونموها بهمّة أبنائها وبناتها، وبنموذج يُحتذى من الديمقراطية والعلمانية وحماية حقوق الإنسان.
[1] تقرير نيويورك تايمز – 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 https://nyti.ms/3HJMOJw
[2] تقرير البي بي سي – 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 https://www.bbc.com/news/59233244
[3] تقرير يورو أكتيف – 14 شباط/فبراير 2020 https://bit.ly/3nFvRbv
[4] مقال في مجلة أتلانتيك الأمريكية – 28 أيار/ مايو 2021 https://bit.ly/3HERG2P
[5] مقال في جريدة فوا – 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2016 https://bit.ly/3nBxCGl
[6] دراسة: روسيا واللاجئون السوريون، فاقد الشيء لا يعطيه – 08 كانون الثاني/ يناير 2018 https://bit.ly/3HEZ4ep
[7] تقرير من البي بي سي – 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 https://bbc.in/3x8hKhT
[8] تقرير منظمة المواطن العالمي – 19 نشرين الثاني/ نوفمبر 2021 https://bit.ly/3xhwMC8
“مركز حرمون”