مع كل حادثة نفوق للأسماك موسمية في نهر دجلة، كانت تُتداول الأخبار التي تضع اللوم على «مؤامرات إيران» تذكرت فقرة في كتاب «لسان العرب» تتحدث عن طبع المبالغة عند العرب، وهي صفة تنطبق أيضا على الطرف الآخر من الجمهور المتعاطف مع إيران، الذي يضع اللوم على مؤامرات دول الخليج وتركيا وربما أمريكا، في كل نائبة تصيب محور حلفاء إيران من بغداد لبيروت، الهدف ببساط هو الهروب من مسؤولية حل المشاكل وتعليقها على شماعة جاهزة.
حتى لغة الكثير من الوسائل الإعلامية أصبحت تستسهل القول عن نظام بشار الأسد، إنه نظام إيراني، وعن قادة الشيعة من حزب الدعوة العراقي إنهم ذيول إيران، ليس الأمر بهذه الصورة المبسطة، فالأسد ونظامه الأقلوي موجود في السلطة قبل قيام نظام طهران بعشر سنوات، وحزب الدعوة الشيعي، تأسس ونشط في العراق وأعدمت كوادره عندما كان الخميني ضيفا لاجئا في عراق صدام حسين.
وللمفارقة، عندما أعدمت حكومة البعث العراقية عام 1977 عددا من كوادر حزب الدعوة العراقي، في أعقاب ما يعرف بانتفاضة صفر، اتهمتهم بالعمالة للنظام السوري، فلم يكن النظام الإيراني يومها، ذا طبيعة إسلامية شيعية ليصلح اتهام الأحزاب الشيعية بالعمالة له. وحتى اليوم، لم يبق النظام السوري مؤامرة كونية إمبريالية، إلا ونسب المعارضة السورية لها، ففكرة ربط المعارضة الداخلية بدولة أجنبية معادية هي «عادات وتقاليد». التحالف والدعم شيء والعمالة والارتهان شيء آخر، ففي الحالة الأولى كانت المعارضة الشيعية موجودة، لكنها ضعيفة بانتظار داعم أو حليف في ظرف مواتٍ، أما لو أن الأمر يتعلق بـ»الذيول» فما كنا وجدنا حزبا أو حركة شيعية معارضة كحركة محمد باقر الصدر، بغياب نظام الخميني، لأن الذيل يرتبط مع الجسد فقط، وبغياب الجسد يختفي الذيل تماما.
هناك عوامل عديدة، إيران واحدة منها وليست على رأسها، تتحكم بقوة أو ضعف الحالة الشيعية الإسلامية في العراق
ما نريد قوله، إن النزاع الطائفي الذي يعيشه المشرق، سببه الأساسي هو الاحتقان والغضب المتراكم من قبل الأقليات والطوائف الشيعية وفرقها (شيعة جعفرية، نصيرية علوية، جارودية حوثية) ضد الحكم السني، وكذلك استياء الأكراد في العراق وسوريا من الحكم العربي، وفي تركيا من الحكم القومي التركي، هذه الثنائية العرقية الطائفية، هي الأساس للمشكلة في الشرق الأوسط، ولن يكون فارقا هنا تحديد من الظالم ومن المظلوم، فكل ملة لا تشعر إلا بمظلوميتها، وتنكر مظلومية الآخرين، وفي النتيجة فإن الحقيقة الوحيدة المنزهة عن هوى الآراء، هي ان لكل قوم او جماعة حساسية فائقة من سلطة أقوام أو جماعات أخرى، وهكذا كان أغلب الأكراد والشيعة في العراق، لا يعتبرون دولة صدام حسين بلونها السني تمثلهم، كما يراها أغلب السنة، وبناء على هذا الشرخ الحاد، لم يكن مشروع الخميني بحاجة للكثير من العمل لمد تحالفات داخل أنصاره من بغداد لبيروت، حتى وصلنا للمشهد الذي نراه اليوم، وكانت جولات الانتخابات العراقية المتواصلة منذ 2004، مؤشرا على حجم التأييد الشعبي العراقي للأحزاب والقوى الشيعية، التي تلقت دعما لسنوات من طهران، وكانت تلك علامة واضحة على أن قوة هذه الحركات تنبع أولا من وجود تأييد شعبي في الوسط الشيعي العراقي قبل حصولها على دعم إيراني. وإذا وصلنا للانتخابات الأخيرة، وبعد الاحتجاجات الشعبية الكبيرة، كانت النتيجة الأبرز، أن الأحزاب الأكثر ارتباطا بطهران لم تحقق أفضل النتائج، وهذا يعني أن هناك عوامل عديدة، إيران واحدة منها وليست على رأسها، تتحكم بقوة أو ضعف الحالة الشيعية الإسلامية في العراق، لكن تم ترسيخ هذه المقولة، التي تربط كل معارضة عربية شيعية بإيران لعقود، في سبيل ربط المعارضة الشيعية بدولة غير عربية، وليس كل إسلامي شيعي هو بالضرورة صنيعة أو تابعا لإيران، كما أنه ليس بالضرورة أن يكون الإسلامي السني عميلا أو ذيلا لحكومة أردوغان، أو يوصم بـ»التبعية العثمانية» أو «بقايا الانكشارية» وليس كل ما تريده طهران يحصل، إذا كانت هناك معوقات محلية تمنعها، إيران هي اللاعب الأقوى في العراق، لكنها تبقى لاعبا غير عراقي لا يتمكن من تحقيق نفوذ، من دون توافق وتطابق مصالح مع حلفائه المحليين في الأحزاب الشيعية العراقية.
كاتب فلسطيني
“القدس العربي”