العالم على مبعدة عام من قرارات الرئيس الأمريكي جو بايدن حول اليمن، سواء تلك التي تضع قيوداً على دعم العمليات الحربية، أو توصيف الحال في اليمن تحت مسمى «كارثة ستراتيجية»، أو رفع جماعة الحوثي عن لوائح الإرهاب. ولقد تعمّد بايدن إطلاق تصريحاته تلك من مبنى وزارة الخارجية الأمريكية في إشارة، بالحرف، إلى أنّ «أمريكا عادت مجدداً والدبلوماسية عادت»؛ صحيح أنّ البوّابة الأولى هي هذا البلد المعذّب الفقير والجائع والمريض، وكانت أعداد ضحايا سبع سنوات من الاقتتال قد تجاوزت 280.000 قتيل يومذاك، إلا أنّ «تحوّلات» بايدن شملت تلميحات إلى روسيا وإصلاح التحالفات بما يكفل خروج «الشعب الأمريكي من هذه اللحظة أقوى وأكثر تصميماً وأفضل تجهيزاً لتوحيد العالم في القتال للدفاع عن الديمقراطية».
ومن اللافت أنّ العام المنصرم شهد «تحوّلات» من نوع آخر على جبهة اليمن وجيرانها، ولكن ليس بما يخدم أقنية التواصل الدبلوماسي بين أطراف ثلاثة ضالعة مباشرة في إدامة الكارثة إياها، أي إيران والسعودية والإمارات، حيث جرى تبادل الزيارات من جانب المسؤولين في طهران والرياض وأبو ظبي، على مستويات لم تكن متدنية أو متواضعة. ذلك لأنّ آفاق الحلّ والربط الفعلي لا تنفتح أو تنغلق في جبهات شبوة ومأرب واختراقات «ألوية العمالقة»، ومشاريع أبو ظبي في موانئ اليمن الجنوبية أو في ادعاء الانسحاب وفي الآن ذاته تطويره فعلياً على الأرض عبر الميليشيات الموالية؛ والساحات الفعلية لسيرورات الانفتاح أو الانسداد إنما تجري في مفاوضات فيينا حول البرنامج النووي الإيراني رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية التي تُثقل كاهل اقتصاد إيران ومداخيلها النفطية وتجارة موانئها…
والحال أنّ استبعاد اتهامات مثل قصر النظر وسوء التقدير وضعف الاستبصار، فما بالك بالغباء أو السذاجة، عن بايدن في تلك الساعة الفارقة قبل نحو عام؛ يسري، بالمقدار ذاته، على المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي، في حُسْن استقبال «تحوّلات» البيت الأبيض واعتبارها محض ذرّ للرماد في العيون. ولهذا سقطت المسيّرات الحوثية على أطراف مطار أبو ظبي ومستودعات أدنوك النفطية، والبريء وحده هو الذي ينزّه طهران عن التخطيط وبعض غير قليل من التنفيذ؛ كما ردّت قاذفات التحالف السعودية والإماراتية فقصفت سلسلة أهداف لم تفرّق في اختيارها بين سجن أو خدمة إنترنت، وسيّان أن يكون السلاح الفتاك أمريكياً أو بريطانياً. وكما تسدد أدنوك أبو ظبي اليوم، وأرامكو السعودية بالأمس، الأثمان المتعاقبة لتورّط سعودي وإماراتي ابتدأ منذ العام 2015 وتفاقم وتعقد واستعصى؛ كذلك فإنّ طهران لا تردّ الصاع إلى تركة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب فقط، بل إلى «تحوّلات» خَلَفه بايدن التي لم تحوّل شيئاً، حتى الساعة على الأقلّ، في المسعى الأبرز لسلّة النفوذ الإيراني في المنطقة: مفاوضات فيينا.
وإذْ يحلو للبعض نسيان، وربما تناسي، الأدوار التي لعبها دكتاتور اليمن القتيل علي عبد الله صالح في مدّ الجماعات الحوثية بأسباب الانطلاق من صعدة الضيّقة والتوغّل إلى سائر اليمن الشمالي ومنح طهران فرصة ثمينة لبناء نموذج جديد من «حزب الله» في لبنان و«الحشد الشعبي» في العراق؛ يحلو للبعض إياه، وكثر سواهم أيضاً، التعامي عن الدور السعودي المباشر في ترقية الحوثي على سبيل المناورة لإضعاف «حزب لإصلاح» اليمني، حين كانت فرائص المملكة ترتعد ذعراً من الأحزاب الإسلامية في الداخل والجوار. وفي المقابل، كان الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما قد اعتمد في اليمن سياسة اصطياد قيادات «القاعدة» عبر المسيّرات، ولا عجب أن تستأنف المسيّرات (إيرانية/ حوثية هذه المرّة) تراث تصعيدٍ لا يلوح أنه سوف يتوقف عند قصف وقصف مضادّ؛ لأنّ «الكارثة الستراتيجية» إياها تواصل جرّ أطراف مشاركة أصلاً في صناعتها وأخرى وافدة إليها وحديثة الانخراط فيها، وأمّا أثمانها الإنسانية فإنها فادحة ومريعة وآخذة في اشتداد.
“القدس العربي”