لا غلوّ في القول إن العالم برمته في حال عدم استقرار متزايد. أكثر مناطقه معاناة في هذه الحال منطقةُ غرب آسيا الممتدة من شواطئ البحر الأبيض المتوسط غرباً إلى شواطئ بحر قزوين شرقاً. كل دول المنطقة هذه في حال توتر وغليان، وبعضها يعاني حروباً متناسلة وأزمات اقتصادية واجتماعية واضطرابات أمنية متواصلة. بعض الخبراء الاستراتيجيين يرى أن لا ضوء في نهاية النفق الطويل للمرحلة الانتقالية. بعضهم الآخر يرى أن لا سلام ولا استقرار قبل انتهاء اللاعبين، كبارهم وصغارهم، من رسم الخريطة السياسية الجديدة للمنطقة المضطربة. في قراءة سريعة للصراعات المتأججة في المنطقة، نقع على الظاهرات الآتية:
في العراق، ثمة صراعٌ محموم بعد الانتخابات لوضع اليد على مقاليد السلطة. إذا لم يتوصل اللاعبون المتصارعون إلى تسوية بشأن تأليف حكومة وطنية متوازنة، فإن البلاد مرشحة للانزلاق الى حرب أهلية تشارك فيها الولايات المتحدة الساعية، على ما يبدو، إلى عدم سحب قواتها لضمان عدم قيام تحالف بين إيران وسوريا والعراق، يمكّن أطراف محور المقاومة من الوصول الى شواطئ المتوسط عبر لبنان، وتهديد الكيان الصهيوني. واشنطن الراغبة في التوصل الى تسوية بشأن إحياء الاتفاق النووي تحتاط بمنع طهران من اغتنام التسوية المرتقبة لتعزيز نفوذها في العراق ودعم أعداء «إسرائيل» المحيطين بها من الشمال، «حزب الله» ومقاومته في لبنان، وحركتيّ «حماس» و»الجهاد الإسلامي» وسائر قوى المقاومة في قطاع غزة وأنصارهم في الضفة الغربية.
في سوريا، تبدو أمريكا عازمة على إبقاء قواتها في شمال شرقي البلاد (محافظتي الحسكة ودير الزور) وفي شمالها الجنوبي (قاعدة التنف) على مقربة من حدود سوريا مع العراق والأردن. إلى ذلك، تقوم واشنطن بتعزيز قوات «قسد» الكردية المتمردة على الحكومة المركزية في دمشق، كما تشجع واشنطن «إسرائيل» على ضرب عدّة مواقع عسكرية في مختلف أنحاء سوريا، بدعوى وجود قوات إيرانية فيها، الأمر الذي يُسهم، في ظنّها، بإضعاف سوريا ويُسيء إلى هيبة حكومتها. وليس ما يشير إلى وجود تغيير في سياسة أمريكا في هذا المجال.
منطقةُ غرب آسيا كل دولها في حال توتر وغليان، وبعضها يعاني حروباً متناسلة وأزمات اقتصادية واجتماعية واضطرابات أمنية متواصلة
في لبنان، تزداد الأزمة المزمنة تعقيداً، وتبدو مرشحة إلى انفجارات محتملة عشية الانتخابات المزمع إجراؤها في منتصف أيار/مايو المقبل، وإذ تتمسك واشنطن كما الرياض بسياسة تطويق «حزب الله»، والإصرار على إضعافه وإبعاده عن الحكومة، تزداد الصراعات حدّة بين التكتلات المحلية المتنافسة، على نحوٍ قد تشعر هذه التكتلات معه بأنها قد تخسر كثيراً من مقاعدها في البرلمان، ما يهدد نفوذها السياسي في قابل الأيام، فتقرر تدوير زوايا خلافاتها والتوافق على تأجيل الانتخابات، وتمديد ولاية مجلس النواب الحالي، إلى حين التوصل إلى تسوية تكون فيها معظم الأطراف النافذة رابحة أو غير خاسرة على الأقل.
في تركيا، يبدو الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه في حال تراجع سياسي متواصل، بسبب أزمة مالية واقتصادية تعانيها البلاد، الأمر الذي يهدد نفوذه شخصياً كما نفوذ حزبه في الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في العام المقبل. هذا إلى جانب التعقيدات التي تواجه سياسة أردوغان حيال سوريا، واضطراره إلى مواجهة تحديين ماثلين: إصرار حكومة سوريا المركزية على استعادة الأراضي التي تحتلها تركيا في شمال البلاد وغربها، وعدم توصل أنقرة إلى تفاهم مع واشنطن حول مصير فريق من الكرد السوريين أقاموا إدارة ذاتية في محافظة الحسكة، حيث آبار الغاز والنفط، وعجز ذراعهم العسكرية، منظمة «قسد»، عن الإمساك بالأرض ومرافق المنطقة، بدليل قيام تنظيم «داعش» الإرهابي بشن هجوم على سجن يضم أكثر من خمسة الآف سجين، وتمكّنه من تحرير بعضهم، بالإضافة إلى تحدٍّ آخر هو قيام واشنطن بإعادة تسليح «داعش» بغية دعم الفصائل والجماعات المتمردة على الحكومة المركزية في دمشق من جهة، ومن جهة أخرى لتبرير بقاء قواتها في العراق، بأنه للحدّ من نفوذ إيران. كل ذلك من شأنه تأجيج الصراع بين كل الأطراف المنخرطة فيه لأسباب تتعلّق بمصالحها الاقتصادية، وبأمنها الذاتي ومطامعها الإقليمية.
في إيران، تشعر قيادة البلاد بأن الولايات المتحدة و»إسرائيل» جادتان في محاصرتها سياسياً واقتصادياً، وربما محاولة النيل منها عسكرياً للحدّ من تنامي نفوذها في دول المنطقة، لذا تتحسب لكل هذه التحدّيات وتحاول تنفيس التوتر بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع السعودية، وتطمين سائر بلدان الخليج بأنها جادة في ترسيخ علاقات حسن الجوار والتعاون معها. غير أن ذلك كله لا ينهي حال التوجس والارتياب بين الأطراف المتصارعين، لاسيما بعد اشتداد الصراع في اليمن، وانتقال أطرافه إلى الضرب في عمق بعضهما بعضاً، وتصريح الرئيس الأمريكي بايدن مؤخراً بأن «إنهاء الحرب في اليمن صعب جداً» الأمر الذي فسرته صنعاء كما طهران بأن واشنطن ما زالت جادة في تأجيج الصراع وتصعيده.
في «إسرائيل»، تواجه حكومة نفتالي بينيت تحديات داخلية وخارجية متفاقمة، ففي الداخل، تواجه تصعيداً من جانب المستوطنين العنصريين ضد الفلسطينيين، ولاسيما لجهة توسيع رقعة الاستيطان الاقتلاعي، حتى في المناطق التي ترغب الحكومة في عدم تسريع إجراءات تغيير وضعها الحالي، وفي مجال استفحال جائحة كورونا وانعكاسها سلباً على الأوضاع الاقتصادية. وفي الخارج، تعاني كل أطراف تركيبة الكيان الصهيوني السياسية من اتجاه واشنطن، على ما يبدو، إلى عدم الالتزام بمشاركة «إسرائيل» في عملية عسكرية لتدمير منشآت إيران النووية والصناعية الحيوية. ذلك كله يُشعر المسؤولين كما المواطنين الإسرائيليين، بأن زمن التفوق العسكري الإسرائيلي قد ولىّ، وبأن على أهل الكيان أن يتدبروا أمورهم وحدهم في مواجهة أصحاب الوطن السليب وأعداء عرب تتعاظم قوتهم العسكرية، كما تصميمهم على استعادة الأراضي المحتلة والحقوق المغتصبة.
في حمأة هذه الصراعات الإقليمية المحتدمة، يبدو أن زمن المرحلة الانتقالية سيطول، وأن انتهاءها سيبقى رهن انتهاء اللاعبين، كبارهم وصغارهم، من عملية استراتيجية شديدة التعقيد عنوانها إعادة رسم خريطة سياسية جديدة لمنطقة غرب آسيا، سلماً أو حرباً…
كاتب لبناني
“القدس العربي”