يذهب ممثلو عدد لا بأس به من ممثلي الوعي الأكثري المعارض في سوريا، إلى فرضية بديهية، تقضي باستبدال الاستبداد بالديمقراطية، دون ربط الأخيرة، بتركيبة المجتمع وهواجس مجموعاته، بما فيها الأكراد الطامحون لحكم ذاتي، وغيرهم من الذين لم يطوروا قضية تحدد طبيعة علاقتهم بسواهم رغم امتلاكهم مخاوف تتعلق بمصيرهم. فرضية هؤلاء، تنطلق من “بديهيتين” الأولى، مفادها أن المجتمع السوري منسجم ولا انقسامات فيه، والثانية، أن سوريا وطن ناجز بنى نفسه عقب الاستقلال، إلى أن وصل البعث للسلطة، فأعادنا لنقطة الصفر.
وإذ كان “البديهية” الأولى، تركز على تأثير السلطة، على إحداث الانقسامات في المجتمع، وهذا صحيح بطبيعة الحال، فهي تتجاهل أن الانقسامات أكثر تجذراً وتصلباً من أن تحدثها أنظمة، الانقسامات متراكمة بفعل التحولات التاريخية التي حكمت المنطقة، والأنظمة استثمرت بها ليس أكثر. ما هو تاريخي وموروث وخاضع لاستثمار السلطة، يمكن أن يضاف إلى ما خلفته الحرب، من أثار سلبية في المجتمع، فعمقت التكاره بين جماعاته، ومنحت كل جماعة سردية ضدية تجاه الأخرى.
أما “البديهية” الثانية، أي سوريا الوطن الناجز، فتحتاج لمراجعة، تتعلق بمرحلة بعد الاستقلال، التي فتكت بها الانقلابات العسكرية، فصارت اللعبة السياسية مشوبة، بتدخل العسكر وتحكمهم ولو في مراحل متقطعة عدا عن أن ميول البلد كانت ضائعة بين المحاور في المنطقة. وذهبت ثلاث سنوات هدراً خلال الوحدة مع مصر الناصرية.
من هنا، ولأننا لسنا في وطن محسوم التأسيس وجماعاته متناحرة، فإن الديمقراطية لن تأتي بنتائج مثل أي بلد يحظى بصفات معاكسة، ومجتمعه نقل انقساماته، من لغة الطوائف والعشائر والإثنيات، إلى لغة المصالح. الديمقراطية، في ظل أوضاعنا السورية، لن تسفر سوى عن تغلب جماعة على جماعة، أي أن الانقسامات ستبتلع الديمقراطية، وتعيد انتاجها ضمن ديناميكياتها العصبوية، المضادة لأي تغيير.
تستخدم الديمقراطية والليبرالية بشكل معاكس يستهدف الأقليات، لاسيما الأكراد، لمنعها من الحصول على حقوقها
كذلك فإن، هذا التصور المتسرع للديمقراطية السورية، الغافل عن المجتمع المركب، يعزل الديمقراطية عن دورها في المساهمة بتشكيل الوطن ناقص التكوين. بمعنى أن مروجي الوعي الأكثري، يتمسكون بوحدة الأرض والشعب، لتحديد الوطن بشكل كلاسيكي قديم، ولا يهتمون بمفهوم الدولة – الأمة، حيث الأولى نظام للحكم، تمثل الثانية المتشكلة من جماعات، تقليدية وحديثة.
وعليه، الديمقراطية تنشط ضمن الدولة، التي تنشط بدورها لإدارة التعدد وضمان تمثيله في المؤسسات. ليس معنى ذلك، أن إدراك الديمقراطية من هذه الناحية، سيؤدي لعلاج الانقسامات. تجارب المنطقة، علمتنا أن عوامل كثير تتداخل في هذا السياق بينها طبيعة أنظمة الجوار وأجنداتها. لكن، على الأرجح، هذا التصور سيكون أفضل من التصور الكلاسيكي، التي يفترض الشعب الواحد ويشترط وحدة الأرض.
وبدل ربط، الديمقراطية، باللامركزية وحق تقرير المصير، وضمان حقوق الأقليات، لتطوير موضعتها ضمن بناء دولة – أمة في سوريا، يهرب منظرو الوعي الأكثري إلى ربطها بالليبرالية، ليس اقتناعاً بالأخيرة كمنظومة حكم واقتصاد وحياة، وإنما لنفي التشكل الجماعاتي للمجتمع السوري، والتأكيد على التشكل الفردي له. وفي حين أن لا تاريخ يمكن الاتكال عليه، لتكون الأفراد في سوريا، بفعل انتفاء الحامل الأساسي المتمثل بالرأسمالية، واقتصار محاولات الأفراد لتميز أنفسهم، بالانتماء لأحزاب سرعان ما سقطت بدورها في العصبيات، فإن غاية بعض الأكثريين، على الأرجح، استخدام الليبرالية، لحرمان الجماعات، من حقها في تقرير مصيرها، والمستهدف الأول هم الأكراد، السباقون في صوغ قضية خاصة تتعلق بحقوقهم.
وبالنتيجة، الوعي الأكثري، يكرر تجربة الوعي الأقلوي الذي استخدم “العلمانية”، لعقود، كرافعة لحرمان الأكثرية من حقوقها، فلم تطبق العلمانية وحرمت الأكثرية من حقوقها. الآن، تستخدم الديمقراطية والليبرالية، بشكل معاكس يستهدف الأقليات، لاسيما الأكراد، لمنعها من الحصول على حقوقها. والخاسر في كلا الحالتين، المجتمع السوري، الذي ينكر الطرفين تشكله الجماعاتي مع استثناءات فردية، وتستخدم مفاهيم السياسة الحديثة، بغرض الانتقام وضمن حلبة الصراع الأهلي.
* كاتب سوري