في مثل هذا اليوم من العام الفائت جرى قتل لقمان سليم. كانت قصة قتل معلن. أُريد لها أن تكون كذلك، وها نحن نستجيب، وبدل أن نستجيب للقمان، نستجيب للقاتل. لا نشيح بوجهنا عنه، لكننا نغادر. فسنة من دون لقمان كثير علينا أن نمضيها متنقلين بين أفعاله، ذاك أننا، حين كان بيننا، كنا متوهمين أنه تحصيل حاصل، وأن هذا الرجل في متناولنا، وإذ بنا نفقده.
لطالما كنت أؤجل شيئاً بيني وبين لقمان. شيئ لا أعرف الآن ما هو تحديداً، لكن كان يجب علي أن أقدم على شيء مع هذا الرجل. شعور يلازمني بأن كل ما أفعله يبقى ناقصاً ومنتظراً لمسة من لقمان. مقالاً، فكرة، مشروعاً، نذهب به إلى حيث يذهب لقمان بلقاياه. وهو كان ينتظر، هناك في هنغاره، بحماسة تفوق حماستنا، وبشغف غريب لم نسعَ لتفسيره. عاجلنا القاتل، ولم يعاجله، فهو كان دائماً بانتظاره. كان لقمان يشير بيده كلما لاح ظل للقاتل خلف جدار المنزل، وحين هاجم رعاع القاتل خيمته في ساحة الاحتجاجات في وسط بيروت، وأطلق عبارة “صفر خوف”، كنا جميعنا هناك في خيمنا، وهو كان غاضباً غضبه العادي، وكان ينتظرهم، ونحن اليوم اذ نستعيد تلك المشاهد المستقطعة وغير المفضية إلى أكثر من حيرة، لا نقوى على دفعها أو تقميش قصة منها تعيننا على استعادة توازننا.
أن تمضي سنة من دون لقمان، فهذا كثير يا صاحب الهنغار! قصص القتلى التي جَعلتَ توضبها في أرشيف البؤس اللبناني والمشرقي والعربي لن تتوج بقصتك، ذاك أن الأخيرة افتراق عنك، ومغادرة لفعل ما كان يمكن أن ينجز من دونك، ناهيك عن أنها لن تتوج بقصة قتلك لأنها بداية أخرى. وما أكثر البدايات في هذا المشرق البائس يا لقمان. فهل يكفينا الـ”صفر خوف” لكي نستأنف مراكمة القصص؟ لكي نضع الجريمة في مكانها، ولكي نخلص منها إلى فكرة وإلى فيلم وإلى كتاب!
ما كل هذا الأرشيف يا لقمان؟ من أين أتيت به، ومن أين أتيت بنا إليه؟ ما الذي أودى بك إلى أرشيف استديو بعلبك وإلى أرشيف فندق الكارلتون وسينما طرابلس؟ فالقاتل كان يعتقد أنك منشغل به، وأن هنغارك في خاصرته، ونحن كنا نعتقد أن لقمان موجود ومتوافر وينتظرنا هناك في منزل العائلة وفي حديقة “أمم”.
لا بأس علينا يا لقمان. العام الذي أمضيناه كان غريباً عجيباً، فقد أثمرت الجريمة المتواصلة منذ الوثيقة الأولى مشهداً ما كنت لتستسلم له، على نحو ما نفعل نحن اليوم. الجريمة التي وثقتها بيديك انتهت إلى المجاعة التي تطرق أبوابنا، ونحن إذ نحيي ذكراك اليوم نشيح بأنظارنا عن ابتسامتك وعن صوتك حين قلت: “الذاكرة ساحة معركة”. ها أنا اليوم ولسبب أجهله أستعيد الصرخة الأولى التي أطلقتها في وجه فيروز حين استجابت لرفيق الحريري وجاءت تغني في وسط بيروت: “قولي لا واهزمي الملك”.
القَتَلة مجرد ثرثارون يا لقمان. هم أقل بكثير من “صديقتك الشريرة” المقلة بالكلام والمكثرة من الأفكار، أما نحن فقد أصابتنا الرصاصة بألسننا، وها نحن نحاول استعادة حناجرنا عبر لملمة ما كانت تهذي به تلك “الشريرة”، عسانا ننجح بالتقاط فكرة تعيننا على تفسير ما يجري. لقد قتلوا لقمان أيتها الشريرة، “لا بأس، فالعالم الذي أنشأه لا يقيم وزناً للرصاصات الغادرة، وأنا سأواصل رقصي على ضفاف الكارثة”، نتخيل أنها أجابتنا على هذا النحو حين أخبرناها بالجريمة.
رشا ومونيكا قررتا المتابعة من حيث وصلت. البيدق الجديد هو “مؤسسة لقمان سليم”، والمهمة إعلاء صوت الضحية وصوت القتيل. لا بأس سنكون معهم كثيرون، لكن المهمة هائلة والجريمة تغطي المشرق والمغرب، والعدالة بعيدة، والقَتَلة يفوقننا قدرة، والطاقة المنبعثة من الهنغار تواصل بحثها عنا، نحن الضائعون في همومنا العادية والباحثون بين مخلفات انفجار مرفأ بيروت عن قصة أخرى، غير تلك التي شطبت وجوهنا.
اليوم نحيي ذكراك يا صاحب الـ”صفر خوف” ونحن على عتبة نهاية جديدة، نهاية ما كان يمكن أن تلوح من دون قتلنا وقتلك. لكننا هذه المرة، اذ نتوجه إلى الهنغار، نفعل ذلك لنطرد فكرة تأبينك. نفعل ذلك بأنانية الخائف من المشاركة بتأبين نفسه. نتوجه إلى الهنغار منتظرين أن تخرج منه فكرة تعيننا على أن نواصل شيئاً كنا أجلنا الخوض به معتقدين أن لقمان موجود ومتوافر وينتظرنا، وأن القاتل لن يعاجله، وإذ به يعاجلنا.
“الحُرة”