في مقالهما في صحيفة نيويورك تايمز، وجد كل من تريتا بارسي نائب رئيس معهد كوينسي وآدم وينشتاين الباحث في نفس المعهد، أن إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان سيُنهي “حقبة” من العمليات العسكرية الكبرى لإعادة تشكيل دول أخرى” ستكون غير كاملة في أحسن حالاتها.
ووفقاً لكُتّاب المقال فإنه يمكن اعتبار الولايات المتحدة تعمل على بناء الدولة في البلدان الأخرى فقط إذا غادرت قواتها العراق. نعم يمكننا القول إنهم على حق بشكل كبير! ولكن مع ذلك، وفي الوقت نفسه، فإن حجتهم أيضاً غير مكتملة، فالولايات المتحدة تحاول إعادة صياغة خريطة الشرق الأوسط التي رسمها الاتفاق الفرنسي البريطاني في أوائل القرن العشرين.
ويزعم بارسي ووينشتاين “بحق أن شبح النقد المماثل للانسحاب من أفغانستان، سوف يُثقل كاهل بايدن” ما لم يتصرف بسرعة ويسحب الجنود الأمريكيين من العراق لأن “الهجمات على القوات الأمريكية ستزداد حتماً” قريباً نتيجة استفزازات الميليشيات المدعومة من إيران.
كما يدحض الكاتبان بمهارة جميع حُجَج مؤيدي البقاء في العراق، بما في ذلك أن الولايات المتحدة بحاجة إلى البقاء في البلاد لجمع المعلومات الاستخبارية عن “داعش” و”القاعدة” وأنه يمنع الإرهابيين من ملء أي “فراغ”.
لكن الحقيقة هي أن الوجود الأمريكي ساعد في تأجيج التمرد في العراق. فتنظيم القاعدة، ولاحقاً، تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، استفادا من الانتصارات التي حققاها ضد الدولة والفوضى التي أعقبت ذلك”.
للأسف، توقف المؤلفان عند هذا الحد. ولكن مع ذلك، يمكن تطبيق نفس الحُجَج ضد الوجود العسكري الأمريكي في العراق على الوجود الأمريكي في سورية.
“جو بايدن ومبدأ المحافظين الجُدُد”
بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، قام وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفويتز -بدعم من نائب الرئيس الأمريكي السابق ديك تشيني- بالتشمير عن سواعدهما لفعل ما حذّر منه الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت أيزنهاور: إنشاء “جيش” – مجمع صناعي “يضع القوى العسكرية والصناعية في أيدي السياسيين. “
وقد حذّر أيزنهاور من أن مثل هذا النظام قد يكون كارثياً على المجتمع المدني. ومع ذلك، فإن هؤلاء المحافظين الجدد، العازمين على جمع الفضيلة والسلطة في يد واحدة، لديهم العديد من ورقات الضغط التي يمكنهم إشهارها، بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل التي كان يمتلكها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين وعلاقاته الوثيقة مع القاعدة. تلك كانت الكلمات السحرية التي يمكن أن تفتح أي بوابة سياسية وإغلاق أي فجوة سياسية.
ويوضح جورجيو سبانول، في مقالته بعنوان: “جو بايدن ومبدأ المحافظين الجدد”، في موقع “الأكاديمية الدبلوماسية الأوروبية” التابعة للمعهد الأوروبي للعلاقات الدولية (IERI)، أنهم لا يزالون يمارسون نفس التكتيكات ويصف كيف أن “العواقب المؤلمة لهَوَس المحافظين الجُدُد بالتدمير الإبداعي” تم تسليمها من رئيس إلى آخر، من الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش إلى باراك أوباما ودونالد ترامب والآن لـ بايدن.
وكان سبانول قد كتب في المقال: “في عام 2019، كتب روبرت كاجان، وهو من المحافظين الجُدُد البارزين، إلى جانب أنتوني بلينكين (وزير الخارجية الحالي) مقالاً يحثّ الولايات المتحدة على التخلي عن سياسات ترامب “أمريكا أولاً” ومواصلة سياسات جورج دبليو بوش وباراك أوباما حيث دَعَوَا على وجه التحديد، إلى سياسة “الدبلوماسية الوقائية والردع” ضد خصوم الولايات المتحدة مُطالبين باحتواء روسيا والصين. وقد أصرّ بريت ماكغورك سيئ السمعة، في فترة ولايته كمبعوث رئاسي خاص للتحالف الدولي لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على دعم الميليشيات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني في سورية، وهو أيضاً من المحافظين الجُدُد، وقد بدأ حياته المهنية في إدارة جورج دبليو بوش وهو قيصر الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي التابع لبايدن. وفي الوقت نفسه، هناك لاعبون جادون مناهضون للصين في إدارة بايدن، ولا سيما كورت كامبل، الذي يُسمَّى قيصر الصين”.
هؤلاء الناس يعرفون أن أفغانستان ليست بوابة مهمة لروسيا إلى “المياه الدافئة” كما كانت بالنسبة للاتحاد السوفياتي السابق. (الآن هناك العديد من البلدان التي يمكن أن تُستخدَم كعقبة لإيقاف روسيا. علينا أن نتذكر آخِر محاكمة في كازاخستان!) فبدلاً من أفغانستان، يمكن للروس استخدام إيران أو العراق أو سورية. وبالإضافة إلى ذلك، برزت إيران، بنظامها الديني الخاص، كتهديد رئيسي لإسرائيل، في حين أن العراق وسورية، بأغلبية شيعية، ينشران التهديد الإيراني.
ماكغورك، الإرهاب وسورية
في غضون ذلك، كان الأكراد في هذه البلدان ضحايا انتهاكات تمييزية لفترة طويلة، وكذلك في تركيا. فقد تم حظر تسمية الأطفال باسم كردي حتى بداية العَقْدين الماضييْنِ.
وعلى الرغم من أن الأكراد هم من مكونات تركيا الحديثة، إلا أنه لم يُسمَح لهم بالمشاركة في السياسة المحلّية ككيان عرقي، بل كأعضاء في الأمة التركية.
وقد رفض صدام حسين في العراق وحافظ الأسد (الدكتاتور ووالد رئيس النظام الحالي بشار الأسد) تسجيل المواطنين الأكراد المنحدرين من العراق وسورية. وقد ساعدت منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية، التي كانت تعمل تاريخياً في جميع أنحاء جنوب شرق تركيا، ولكنها تتمركز الآن بشكل أساسي في المناطق الجبلية في شمال العراق، ماكغورك والمتآمرين معه عندما وضعوا خطة لتقسيم العراق وسورية.
وقد خدم ماكغورك في مناصب أمنية وطنية رفيعة في عهد بوش وأوباما وترامب. كما شغل منصب المبعوث الرئاسي الخاصّ للتحالف المناهض لداعش. وقد تمّ تعيينه في هذا المنصب من قِبل أوباما في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2015 واحتفظت به إدارة ترامب حتى عام 2018. وفي شهر كانون الثاني/ يناير عام 2021، اختار بايدن ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وعاد الآنَ ليقوم بإعادة تصميم خرائط العراق وسورية. لقد كان يرغب في تضمين تركيا في مخططه لرسم الخرائط.
إن أحد الأسئلة التي لم يتم طرحها كثيراً حول “داعش” هو كيف تم تجميع هذه المجموعة العشوائية من أنصار أسامة بن لادن (معظمهم من العاطلين عن العمل، مدفوعين بحب المغامرة، بالسلاح، وبضعة دولارات، وعمليات القتل على يد الجنود الروس، ومعرفتهم بمدى ضعف المجندين من الدمى الذين لم تكن أنظمتهم تريدهم أن يقاتلوا وإنما يحاولون الهروب إلى موسكو أو إيران) واستطاعت الانتشار في العراق وسورية ووصلت إلى اليمن والسودان وليبيا؟ عندما لم تَعُدْ تلك الأصول مفيدة بمجرد انتهاء الحرب التي قادها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر ضد الاحتلال السوفياتي، وانقلب بن لادن على الأيدي التي أطعمته ذات مرة، بدأت عائلة بوش -الأب والابن- حربها ضد الإرهاب. ومع وفاة بن لادن، كان يُعتقَد أن أتباعه سوف يتبددون. ومع ذلك، على ما يبدو، لم يكن هذا هو الحال. باختصار متى أو في أي مكان احتاج ماكغورك وأمثاله إلى عدو لتبرير وجود أبطال لعبة شركة الألعاب هاسبرو (المقاتلين)، فإن القاعدة سوف تتجسد هناك.
افترض بارسي ووينشتاين، في مقالهما بصحيفة نيويورك تايمز، أن الوجود الأمريكي ساعد في تأجيج التمرّد في العراق. وبناءً على ذلك، فقد كتبوا أن القاعدة، ولاحقاً، “داعش”، استفادتا من الفوضى التي أعقبت دخول القوات الأمريكية إلى البلاد. لنفترض أن هذا صحيح بالنسبة للعراق. لكن كيف يمكنكم تفسير ظهور “داعش” في سورية؟ كيف تفسرون فشل القوات المسلحة الأمريكية الجبارة بمقاتلاتها من طراز “F16” وتشكيلة الأسلحة، وقوات سورية الديمقراطية (مجموعة انفصالية تهيمن عليها الفصائل السورية لحزب العمال الكردستاني، ووحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي)، والتي تم تزويدها بعشرات الآلاف من مقطورات الأسلحة، في التغلب على بضع مئات من فلول القاعدة؟
لم يستطع ترامب تفسير ذلك أيضاً، ونتيجة لذلك، طلب من ماكغورك ترك الحكومة وأمر القوات الأمريكية بمغادرة سورية، كما تفعل في أفغانستان والعراق. واتفق مع الرئيس رجب طيب أردوغان على أن الجيش التركي يمكن أن يعتني بما كان ماكغورك يسميه “جبهة النصرة”، فرع القاعدة في سورية.
بفضل الناخبين الأمريكيين، خسر ترامب الانتخابات، وبالتالي، استأنف ماكغورك عمله في سورية وعاد تنظيم “داعش” الموالي للقاعدة إلى الظهور. الآن، عاد فريق “بايدن – كامالا هاريس” إلى غرفة العمليات في البيت الأبيض ليشاهدوا مباشرة إبادة قادة “القاعدة” في مخابئهم في سورية.
لذا للإجابة على استفسار المؤلفيْنِ بارسي ووينشتاين (ونيويورك تايمز) حول سبب بقاء القوات الأمريكية في العراق (وسورية)، دعونا نستخدم كلمات بايدن: “إعادة تشكيل تلك الدول لم تنتهِ بعدُ”.
نداء بوست – ترجمات – ديلي صباح