ابتلاءُ السوري بسلطةٍ إباديةٍ تجاوزت كل الأنظمة الإبادية genocide ، سلطة ترى أن وجودها يستلزم إلغاء الآخر بأي ثمن؛ وصَمْت العالم الجبان المريب عن شعارها الوقح والإجرامي: “أحكمها أو أدمرها”؛ ومساهمة كثيرين بتنفيذ هذا الشعار؛ كل ذلك وضع السوري أمام تحدٍّ وجوديٍّ يتمثل بالبقاء أو الزوال “to be or not to be”. نظام الإبادة الذي واجهه لم يترك فعلاً إجرامياً إلا ومارسه لتحقيق هدفه: تعامل مع الإرهاب العالمي، ووصم مَن يدمر حياتهم بالإرهابيين، وادّعى مقاومة الإرهاب، واستدعى الاحتلالات، واستمر بادعاء السيادة ووهبَ موارد البلد للمحتل، وسرقَ المساعدات الإنسانية الدولية، ونشرَ المخدرات، وأشرفَ على عمليات الخطف، وادّعى أن العقوبات هي سبب فقر الناس ومعاناتهم؛ والأغرب والأمرّ، هناك مَن لا يزال يفكر، ويسعى لإعادة تدويره!!
في الداخل والخارج، لم يبقَ للسوري ما يخسره إلا الخسارة؛ فهو يُهان بالمعنى الكامل للكلمة، واستوت لديه الحياة بالموت؛ لقد تشرد نصف شعبه، وتدمر نصف بلده، واعتُقل مئات الآلاف من أهله؛ وها هو إثر العَوَز والوجع والجوع والإذلال، يبحث عن الرحيل من وطن ليس له غيره. في الداخل والخارج تراه إن خلّف، هناك مَن يقول له: أهذا وقت التكاثر؟! إن ابتسم، هناك مَن يقول له: أتبتسم، وبلدك بهذا الحال؟! إن أكل يقال له: أتأكل، وهناك مَن لا يجد كسرة خبز يقتات عليها؟! إن تكلم بالسياسة، يجد مَن يقول له: ما هذا التنظير السخيف، وواقع الحال يستلزم البندقية فقط؟! إن ذهب إلى جنيف، يجد مَن يحتقر جنيف بكل الكلام والإستراتيجيات التخاطبية التي ما أنزل الله بها من سلطان؛ إن وصف نظام الأسد بالإجرام يجد مَن يقول له: ألم يخرِّب الائتلاف والسعودية وقطر البلد؟! وفوق هذا، مَن هو افتراضياً رئيس بلده، يعلن انتصاره على الشعب، ويعلن فوزه بمجتمع متجانس، محاكاةً للنازية الجديدة.
يعرف السوري بالفطرة ودون الإطلالة على مراكز البحوث ودهاليز المخابرات أو الـ “ويكي ليكس” أن نظامه لم يثبُت أو يستمر خمسة عقود دون أن يكون وقَّع “بروتوكولاً” مع الشيطان لتعزيز حال إسرائيل، والعمل حارساً للحدود التي يأتي منها الخطر على كيان صهيون؛ فكان المحرك والموجه لحزب نصر الله؛ والمتعاقد الأقوى مع ذريّة الخميني، ليكونوا جميعاً حالات معتمدة من قِبل ذلك المحفل الأعلى.
ينظر السوري إلى الآخر -المساهم في الكثير مِن مصابه- فيجده لم يخسر شيئاً تقريباً. ينظر فيما تفعله أمريكا فيجدها تسعى وراء مصالحها؛ وتحت كابوس لوبي الصهاينة تريد تعزيزاً لقوَّة إسرائيل لخمسة عقود قادمة، تُماثل الزمن الذي أراحها فيه “نظامُه”. والروس -بعد أن ساهموا بتدمير بلده- يتقدمون بأوراق اعتمادهم لأمريكا والغرب الأوروبي كي يُزيحا المقاطعة، ويَرضيا بعودة روسيا بوتين وريثة للقوة العظمى السوفييتية. وإيران من جانبها، استشعرت تحوُّل شعار “الموت لأمريكا” إلى كذبة سمجة مُملَّة، فأخذت تخطب ود أمريكا خلسة؛ فها هي تقول لأمريكا إنه لا علاقة لنا بـ 11 أيلول؛ إنها فعلة سعودية آثمة، كي يعتمدوها ممثلاً في المنطقة. وأوروبا تهيم في غطرسة قديمة تمنّ على الجميع بحملها بعض مَن شردتهم حرب الاستبداد والإبادة.
يعرف أن تلك الأمم تدخلت بقضيته وأضاعت صرخته عندما وضَعَت “محاربة داعش أولوية”؛ وأن رئيس أمريكا السابق خصّص لمحاربتها 15 سنة؛ والسوري لا يستطيع الاستمرار بما هو عليه 15 دقيقة. تحمَّل السوري وصبر وانتظر واستمر نزفه؛ فهو قد وُضِعَ أمام خيارات هي الأحقر في التاريخ البشري: “الأسد أو داعش” – “الأسد أو الإرهاب”- “الجوع أو الركوع” – “الأمان أو النزوح” – “الحاجز الإيراني أو الحاجز الروسي”.
أما الأمم المتحدة -والتي وُجدت للسلام العالمي ولحماية الإنسان وحقوقه حسب ميثاقها- فهي التي خذلته وعبثت بقضيته بكلام معسول للممثلين الدائمين وفيتو بوتين وقرارات بلا أنياب. وهذا هو مبعوثها الرابع للقضية السورية يتراقص على أبواب الدول، ويتمخض ذهنه أخيراً عن مزيد من الرِّشا لمنظومة الاستبداد الأسدية، تحت بدعة “الخُطوة- بخُطوة” علّ “نظام الأسد” يستجيب لعملية سياسية تُنهي القضية السورية، وتضيّع حق السوريين في استعادة وطنهم وحريتهم وكرامتهم.
هناك مَوَاتٌ داخلي في سورية؛ والمَوَاتُ الخارجي للسوريين لا يقل عنه؛ في الداخل يأس، وجوع، وذل، واستباحة لإنسانية الإنسان وكرامته. وفي الوقت ذاته هناك صرخات وتجدُّد لروح ثورة سورية ترعب المستبد وحُماته. صحيح محدودة ومتقطعة، ولكنها تُعيد بثّ الروح في هذا الاستنقاع والضياع؛ وهناك صحوة عامة، لكن صامتة؛ ولا بُدَّ من أن تَنْفَجِرَ لتَنْفَرِجَ؛ وهي آتية. وفي الخارج حَيرة وارتباك وإحباط وشوق وأفكار واجتهاد وتنظيم وجهود وتمترس عند مبدأ العودة إلى سكة الحياة. في الجزء الثاني من هذا المقال، ما العمل؟
“نداء بوست”