إذا كانت السياسة هي آخر ما ينبغي للمسرحيين تعلمه، فإن المسرح هو أول ما يجب على السياسيين إتقانه والاستفادة منه في أساليب الإقناع، ذلك أنه “فن الكذب بصدق” في أعمق تعريفاته، وأكثرها بلاغة وإيجازا.
اليوم، ونحن نتابع ما يستجد من أحداث وصراعات في عالم السياسة على الشاشات – على وجه الدقة والتحديد – تكتمل لدينا كل عناصر الفرجة المسرحية: نصوص مكتوبة وأخرى مرتجلة، مؤدون محترفون وهواة، منصات ومؤثرات صوتية وبصرية في الهواء الطلق أو القاعات المغلقة.. وجمهور غفير ومنقسم على نفسه من المتفرجين العاديين والنقاد المحترفين.
أما عن الإخراج فيتولاه الإعلام، ويتصدى له من خلال ما يختاره، يقتطعه، ويريد التركيز عليه دون غيره في لغة استقطاب ثنائي حاد، تحاول تطويع المنطق إليها بالبحث عن الحجة والبرهان بهدف الإقناع، ومن خلال ادعاء نوع من الموضوعية والحيادية لا يوجد إلا في قواميس اللغة.
لنأخذ، وعلى الصعيد الدولي، أفصح وأوضح الأمثلة الراهنة والمستجدة حول أحدث وأخطر الصراعات السياسية التي تملأ الدنيا وتشغل الناس هذه الأيام، وهي الأزمة الروسية مع الغرب الأوروبي – الأميركي بشأن أوكرانيا التي تشهد حدودها الشرقية حشودا عسكرية روسية غير مسبوقة، وتهدد بغزو هذا البلد الذي كان جزءا من الاتحاد السوفييتي المنهار عام 1991، وذلك على خلفية رغبة روسيا في أن يعود الناتو إلى حدود 1997، بعد اتهام موسكو لدول الحلف بضخ الأسلحة إلى أوكرانيا.
كلا الطرفين في هذه الأزمة حشد كل ما لديه من أدوات إدانة للخصم المقابل كالحديث فجأة عن اكتشاف مقابر جماعية تحقق فيها روسيا، وغير ذلك من أوراق يستخدمها كل فريق على جميع الأصعدة السياسية والاستراتيجية مستندا إلى معطيات تاريخية وجغرافية، وحتى بشرية وثقافية.
بات من الواضح والبديهي أن الحروب السياسية في هذا الزمن جلها إعلامي دعائي يستخدم المسألة الحقوقية ذريعة لفرض موقفه وترويج نسخته
كل ذلك وقع الزج به مرة واحدة كحطب يذكي نار المعركة التي لا تزال كلامية، إنما توشك أن تسمعنا طبول الحرب من خلال هذا التصعيد الإعلامي والحشود العسكرية غير المسبوقة.. لكن “ضحايا الحرب لا يسمعون طبولها” كما يقول المثل الروسي.
كل هذا يبقى نوعا من “التصعيد الدرامي” بالمفهوم النفسي، وليس في ما يتعلق بالوقائع وتطورات الأحداث، أي أن الأمر يشبه مسرح النمساوي ستيرنمبرغ الذي يهتم في كتاباته بالتطور النفسي للشخصيات أكثر من المستجدات على أرض الواقع.
وما دمنا في غمرة المقاربة المسرحية للأزمة الروسية – الغربية، فإن المشهد أقرب إلى الخلاف بين مدرستين مسرحيتين في قراءة ورصد مفهوم الصراع: الأولى غربية “شكسبيرية” تبرر الصراعات والحروب بالذود عن الذات وربطها بمبدأ حماية المستضعفين والانتصار لقيم الخير والفضيلة في مواجهة قوى الخيانة والدسائس السياسية في زوايا القصور.
أما المدرسة المسرحية الإغريقية التي تمثلها روسيا من خلال هوس الزعيم بوتين بالبحث عن الزعامة المفقودة، ففيها تبحث الشخصية عن تبريرات وحجج تفسر شرعيتها السلطوية كالقوة العسكرية أو مساندة المؤسسة الدينية لها أو بمقياس سياسة تقوم على رأي الأغلبية الوهمية الموهومة أو على الشرعية الجينية المتمثلة في توارث الحكم.
ولعل ما يدعم هذه المقاربة حول الحقوق التاريخية لروسيا هو استيلاؤها على شبه جزيرة القرم، كما أن أوكرانيا تعد جزءا من الاتحاد السوفييتي الذي يعتبر بوتين انحلاله “تفككا لروسيا التاريخية”، واصفا الروس والأوكرانيين بأنهم “أمة واحدة”، ومعتبرا قادة أوكرانيا الحاليين بأنهم يديرون مشروعا مناهضا لروسيا.
وشكا بوتين من أن روسيا “ليس لديها مكان آخر تتراجع إليه، هل يعتقدون أننا سنبقى مكتوفي الأيدي؟”، مذكرا بأن الغرب تعهد عام 1990 بأن الناتو لن يتمدد شبرا واحدا إضافيا نحو الشرق، لكنه فعل ذلك على أي حال.
إلى هنا تبدو حجة روسيا واقعية، خصوصا أنها تكرر الحديث عن عدم نيتها لغزو أوكرانيا وبادرت إلى نوع من إعادة الانتشار لقواتها، لكن “الأقوال يجب أن تقترن بالأقوال” كما تقول بريطانيا حليفة الولايات المتحدة المتشددة أكثر من قرينتيها المعتدلتين نسبيا في حلف الناتو فرنسا وألمانيا.
هذا التوجس من التهديد الروسي أكده البيت الأبيض عند إشارته إلى أن لدى روسيا أسلحة أخرى، بما في ذلك الهجمات الإلكترونية والتكتيكات شبه العسكرية أو المعتمدة على الميليشيات الموالية لها عندما انهار 70 موقعا إلكترونيا تابعا للحكومة الأوكرانية في يناير الماضي، وهو ما نفته روسيا.
تبدو الرواية الروسية أكثر تماسكا وأقرب إلى الإقناع من السردية الغربية المتخبطة وغير المتماسكة في خطابها الإعلامي
تبدو الرواية الروسية أكثر تماسكا وأقرب إلى الإقناع من السردية الغربية المتخبطة وغير المتماسكة في خطابها الإعلامي بسبب تشتت النشاط الدبلوماسي لدول الناتو نتيجة تضارب المصالح الاقتصادية، ذلك أن للغاز الروسي كلمة يقولها في أتون هذا الصراع.
التعاطف مع روسيا من قبل شعوب ودول المنطقة العربية وغيرها قد يبدو واضحا بعض الشيء، وذلك لرغبة في البحث عن توازن مفقود بعد تجربة مريرة مع أحادية القطب الغربي، بالإضافة إلى “صوابية الموقف الروسي” وقدرته على الإقناع كما يرى بعض المحللين.
هذا على الصعيد الدولي في ما يخص ترجيح رواية عن أخرى ضمن الصراعات والأزمات السياسية التي تطفو على مسرح الأحداث، أما على الصعيد العربي فإن أزمة داخلية تشهدها تونس مثلا، تقيم الدليل على أن الرابح السياسي هو من يمتلك القدرة على الإقناع الإعلامي من خلال بوابة القانون والحقوق المدنية والديمقراطية.
يوشك الرئيس قيس سعيد في تونس أن يخسر معركته ضد خصومه الإسلاميين منذ الخامس والعشرين من يوليو الماضي لو يترك لهم فرصة تحشيد الرأي العام الدولي ضده من خلال البوابة الحقوقية في ما وصفوه بـ”الانقلاب” وهي كلمة في ظاهرها موضع نظر بالنسبة إلى الذين يأخذون عليه المسك بالسلطتين التنفيذية والقضائية بعد تجميده للسلطة التشريعية في حملته التطهيرية التي قاربت نصف العام من يوم إعلانها.
بعض وسائل الإعلام الغربية التي تأخذ برواية الإسلاميين وحلفائهم بأن سعيد قد انقلب على الدستور، لو كلفت نفسها النزول إلى الشارع التونسي لوقفت على حقيقة مفادها أن الأغلبية الساحقة تؤيد ما ذهب إليه الرئيس، بل أنها تعاتبه على بعض التباطؤ والتقصير في اتخاذ مثل هذه الإجراءات مثل قراره بحل المجلس الأعلى للقضاء.
المشكلة أن “الحقيقة عذر باهت دائما” كما تؤكد المقولة الشهيرة ثم أن جمهور مساندي الرئيس التونسي ظل يخاطب نفسه دون أن يلتفت إلى الأصوات المناهضة التي ترتكز على خلفيات قانونية مزورة أو هي كلمات حق أريد بها باطل على أقل توصيف.
بات من الواضح والبديهي أن الحروب السياسية في هذا الزمن جلها إعلامي دعائي يستخدم المسألة الحقوقية ذريعة لفرض موقفه وترويج نسخته، تماما كما يحدث في الإعداد الدرامي للسينما والمسرح، فلطالما صورت أفلام الويسترن الهنود الحمر على أنهم همج وعدائيون ثم جاء من ينصفهم، ولكن بعد أن أوشكوا على الانقراض.
“صحيفة العرب”