إسرائيل تريد موت الاتفاق النووي الإيراني، لأنها تراه تهديدا لوجودها، وهي شنت حربا عليه قبل وبعد إقراره عام 2015، وبسببه نشبت أزمة كبرى بينها وبين إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما. ولا يختلف موقف نفتالي بينيت من البرنامج النووي الإيراني عن موقف نتنياهو. وكان هذا الموقف هو المحرك الرئيسي لقرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق عام 2018.
الآن وبعد عشرة أشهر من المفاوضات تأكدت استحالة العودة الكاملة إلى الاتفاق الأصلي، خصوصا مع تبني واشنطن استراتيجية كان هدفها التوصل لاتفاق «أطول مدى، وأشد قوة» حسب تعبير أنطوني بلينكن. ومن الواضح أن إدارة بايدن اختارت أخيرا إعادة النظر في استراتيجيتها، ليصبح هدفها تحقيق اتفاق «أقصر زمنيا وأضعف من ناحية القيود».
ونحن نعرف إن من تقاليد الدبلوماسية الميل إلى اختيار «الحلول العملية القابلة للتطبيق» والبعد عن «الحلول المثالية المستحيلة أو الصعبة». وإعمالا لذلك المبدأ، فإن الفريق الاستراتيجي الذي يدير المفاوضات من واشنطن، وهو نفسه تقريبا الذي عمل مع جون كيري للتوصل إلى اتفاق عام 2015، اختار الانتقال إلى «المسار العملي القابل للتطبيق». وقد عرض روبرت مالي كبير المفاوضين الأمريكيين وجهة النظر الجديدة لاستراتيجية المفاوضات مع إيران على الكونغرس الأمريكي، في أوائل الشهر الحالي، في خطوة مسبقة لجس النبض تجاه مشروع الاتفاق، الذي أشارت إليه وكالة «رويترز» قبل أيام. ويبدو كذلك أن هناك تفاهما غربيا بشأن ضرورة التوصل إلى اتفاق خلال «أيام قليلة» وليس خلال أسابيع، أو قبل نهاية الشهر الحالي على أقصى تقدير.
من الواضح أن إدارة بايدن اختارت أخيرا إعادة النظر في استراتيجيتها، ليصبح هدفها تحقيق اتفاق «أقصر زمنيا وأضعف من ناحية القيود»
اللاءات الإيرانية السبع
لكن هذا التحول في الموقف الأمريكي اصطدم عمليا بسبع لاءات تمثل جوهر استراتيجية المفاوضات لدى طهران، هي:
1- لا للعودة إلى اتفاق 2015 قبل رفع كل العقوبات «غير القانونية» التي فرضها ترامب على مؤسسات مثل الحرس الثوري الإيراني وشركاته، وضد الأفراد بمن فيهم المرشد الأعلى السيد علي خامنئي.
2- لا لاتفاق جزئي أو انتقالي مع الولايات المتحدة، بل العمل على توقيع اتفاق مستدام شامل،
3- لا لاتفاق بدون آلية للتحقق والتدقيق وضمانات ذات مصداقية لرفع العقوبات، وضمان عدم تكرار واقعة الانسحاب من الاتفاق، أو إعادة فرض العقوبات،
4- لا لوضع أجل زمني لنهاية المفاوضات، وضرورة ألا تجري تحت التهديد أو الابتزاز،
5- لا لمفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة قبل إعلان التزامها برفع كامل للعقوبات، ولا لاتفاق ثنائي منفصل معها بشأن البرنامج النووي،
6- لا لمناقشة برنامج الصواريخ والبرامج العسكرية الإيرانية ضمن المفاوضات النووية،
7- لا لمناقشة القضايا الإقليمية خارج إطار إقليمي، ولا لتدخل قوى خارجية،
ويبدو لي أن القيادة السياسية في طهران، على الرغم من محاولات إدارة الشؤون الداخلية، بما فيها الاقتصاد على أساس افتراض استبعاد العودة للاتفاق النووي قريبا، فإنها أصبحت الآن مضطرة لإعادة تقييم استراتيجيتها، بعد أن أدركت أن المنافع التي يمكن أن تعود عليها من توقيع «اتفاق جزئي مرحلي» تتجاوز كثيرا تكلفة انتظار «توقيع مستدام طويل الأمد يشمل الرفع الكامل للعقوبات». ويبدو لي أيضا أن روسيا والصين لعبتا دورا مهما في إقناع طهران بتغيير موقفها الاستراتيجي، على اعتبار أن إدارة بايدن مهددة بعدم الاستمرار، ومن ثم فلا قيمة لعقد اتفاق طويل الأجل معها، وأن طهران تستطيع في الأجل القصير أن تجني بعض المكاسب مثل، الإفراج عن جزء من الأرصدة المالية المجمدة، ورفع العقوبات التجارية جزئيا، بما يساعدها على تشغيل اقتصادها بقوة أكبر. وقد ظهرت علامات التغير في استراتيجية المفاوضات الإيرانية ضمن البيان الذي ألقاه وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان في جلسة مغلقة عقدها مجلس الشورى الأسبوع الماضي، كما عبر عنها الوزير في حديثه الأخير إلى صحيفة «فايننشال تايمز». ونستطيع من خلال قراءة تصريحاته بالعين المجردة، أن نرصد إسقاط مصطلح «رفع العقوبات بالكامل» واستخدام مصطلح «رفع أكبر قدر ممكن من العقوبات» بدلا منه. وكذلك إسقاط شرط التوصل إلى «اتفاق مستدام» واستخدام مصطلح تحقيق «اتفاق جيد» وهو مصطلح مطاط لا يتضمن أي معايير لشروط «الجودة». وإسقاط شرط «الحصول على ضمانات قانونية للاتفاق» واستخدام صيغة جديدة تقبل ببيان مشترك من قيادات الكونغرس. كذلك استخدم عبد اللهيان أمام مجلس الشورى، لهجة أكثر مرونة، أقرب كثيرا إلى اللهجة التي كانت تصبغ خطاب إدارة الرئيس السابق حسن روحاني. هذا التغير في الاستراتيجية، ربما يحمل في طياته خلافات بين الحكومة من ناحية، والحرس الثوري ومجلس الأمن القومي من ناحية أخرى، وهي خلافات ظهرت ضمنيا في تصريحات علي شمخاني سكرتير مجلس الأمن القومي، وغيره من المحسوبين على التيار المتشدد داخل مجلس الشورى. ويجب أن نشير أيضا إلى أن حكومة رئيسي ستواجه عقبة كبيرة، في سعيها لتمرير اتفاق ينص على تقليل نسبة تخصيب اليورانيوم، أو التخلص من أجهزة الطرد المركزي المتطورة، وذلك بسبب القانون الذي أصدره مجلس الشورى في ديسمبر 2020 ، الذي يلزمها برفع تخصيب اليورانيوم وحماية «المصالح الوطنية» للشعب الإيراني. وربما على هذه الخلفية يطلب عبد اللهيان من القوى الغربية أن تبدي أكبر قدر ممكن من «الواقعية» و»المرونة» وذلك توقيا لرفض المتشددين لمشروع الاتفاق المقترح، كما سارعت الخارجية الإيرانية إلى وصف ما ورد في تقرير رويترز على أنه «أخبار كاذبة».
هذا التحول الدرامي في الاستراتيجيتين الأمريكية والإيرانية، أشاع حالة من التفاؤل في فيينا، بشأن قرب التوصل إلى اتفاق. هذا التفاؤل وإن كان مبنيا على مؤشرات حقيقية، إلا أنه من السذاجة المبالغة فيه إلى الحد الذي يذهب للاعتقاد بقرب توقيع اتفاق خلال أيام قليلة؛ فلن يكون هناك اتفاق قبل أن يتحقق الاتفاق، وهو ما يحتاج وقتا كافيا لحل القضايا العالقة. وقد قلنا في هذه الصحيفة منذ أسبوعين، إن هناك ثلاث محطات يجب الوصول إليها أولا قبل إعلان أن الاتفاق أصبح في متناول اليدين، أولها أن تقدم واشنطن عرضا مقبولا إلى طهران، وهو ما لم يتحقق حتى الآن. وثانيها أن تقبل طهران بانضمام واشنطن إلى المفاوضات المباشرة، وثالثها أن تتفق كل الأطراف على طبيعة الضمانات المطلوبة، وإقامة نظام للتحقق من رفع العقوبات، في مقابل نظام التحقق من تخفيض مستوى البرنامج النووي الإيراني الذي تتولى مسؤوليته الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
إسرائيل تستخدم أذرعها في واشنطن
زيادة فرص التوصل إلى اتفاق في مفاوضات فيينا أثارت حالة من الفزع في إسرائيل. ومن ثم فإنها لجأت إلى تغيير استراتيجيتها، من مجرد الطنطنة عن «حرب منفردة ضد إيران» وانتقاد الموقف الأمريكي من بعيد، إلى استراتيجية تستهدف «إفساد فرص التوصل إلى اتفاق» وذلك بنقل الحرب عليه إلى واشنطن، واستخدام الأدوات المتاحة كافة للضغط على إدارة بايدن، من خلال الكونغرس، بل في داخل الإدارة نفسها، كما تجلى في استقالة ريتشارد نيفيو نائب رئيس فريق المفاوضات اعتراضا على مشروع الاتفاق. كما تستهدف إسرائيل تهديد فرص فوز الديمقراطيين في الانتخابات المقبلة، كما فعلت في اوائل التسعينيات، خلال المواجهة بين شامير وجورج بوش الأب، بسبب الاستيطان، التي انتهت بخسارة بوش فرصة الحكم لفترة ثانية عام 1992. وفي سياق استراتيجية نقل الحرب إلى واشنطن زار إسرائيل في الأسبوع الماضي وفد من مجلس النواب برئاسة نانسي بيلوسي، التي أكدت هناك أن «إسرائيل هي قضية مشتركة بين الحزبين داخل الكونغرس». كما دعت إسرائيل أحد أقوى صقورها في الكونغرس، وهو السيناتور ليندسي غراهام، الذي وصف الاتفاق المحتمل بعد لقاءات مع رئيس الوزراء ووزيري الخارجية والدفاع وقيادات الكنيست، بأنه سيكون بمثابة «التغيير الأعظم لقواعد اللعبة» في الشرق الأوسط، وشن هجوما حادا على إيران عقد فيه مشابهة بينها وبين النظام النازي، وحذّر من وقوع «هولوكوست» جديد ضد اليهود بسبب الاتفاق، وأعلن انضمامه إلى المعسكر الذي يتبنى استراتيجية حرمان إيران من امتلاك «قدرات نووية» تساعدها على إنتاج سلاح. كما استقبلت إسرائيل في نهاية الأسبوع وفدا من رؤساء المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة، التقى بهم نفتالي بينيت يوم الأحد الماضي ليشرح جوانب الخلاف العميق مع إدارة بايدن، مع تأكيد أن إسرائيل ستكون هي الضحية الأولى للاتفاق المحتمل. وفي إطار الاستراتيجية نفسها أوفدت إسرائيل مدير إدارة التخطيط الاستراتيجي في وزارة الخارجية إلى فيينا لكي يتابع شخصيا تفاصيل ما يجري وراء كواليس المفاوضات، وإبلاغ الحكومة بتقارير يومية عنها، لمساعدتها على إدارة الحرب اليومية على الاتفاق في واشنطن.
كاتب مصري
“القدس العربي”