في قسط غير ضئيل من الذاكرة العربية عن حصار العراق، سنوات التسعينيات من القرن الماضي وقبيل الاجتياح الأمريكي للبلد، ثمة تلك العبارة الشهيرة التي أطلقتها مادلين أولبرايت (1938-2022)، وكانت يومها مندوبة دائمة للولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي، حول وفاة أكثر من نصف مليون طفل عراقي بسبب الحصار، والعدد هذا أكبر من ضحايا قنبلة هيروشيما: “أعتقد أن الخيار صعب للغاية، ولكننا نعتقد أن الثمن مستحق”. قسط غير قليل من الذاكرة السورية، في المقابل، حفظ زيارة أولبرايت، وكانت يومها وزيرة الخارجية، لتعزية بشار الأسد بوفاة والده شكلاً، ولتثبيت مساندة واشنطن لتوريثه السلطة مضموناً. لكن قارئ 2500 كلمة من مادة الرثاء التي كرستها صحيفة “واشنطن بوست” في مناسبة رحيل أولبرايت، لن يجد أي ذكر للعبارة الأولى الرجيمة؛ ولن يعثر، أيضاً، على أية إشارة إلى مباركة الولايات المتحدة تكريس وريث في نظام استبداد وفساد وإرهاب.
وإذا صح أن المعلومة الأكثر جاذبية هي تلك التي تقول إن أولبرايت كانت أول امرأة تشغل حقيبة الخارجية في الولايات المتحدة، فإن تتمة المعلومة قد لا تجذب إلا ضحايا سياسات الولايات المتحدة في الغزو والهيمنة والإخضاع، أو منتقدي تلك السياسات هنا وهناك في العالم: أن أولبرايت كانت الأكثر توقاً (وشهوة، كما يتوجب القول) إلى استخدام القوة العسكرية في خدمة السياسات، أو بالأحرى تطويعها. وذات يوم، حين تحفظ كولن باول رئيس هيئة الأركان المشتركة على إرسال قوات أمريكية إلى البوسنة، سارعت أولبرايت إلى توبيخه هكذا: ما جدوى هذه القوة العظمى إذا لم نستخدمها؟ وخلال خطبة توديع منصبها في وزارة الخارجية، بحضور خَلَفها باول نفسه، لم تتورع أولبرايت عن القول إن التاريخ أثبت صواب رأيها وخطأ رأي باول، بصدد استخدام القوة العسكرية الأمريكية في عمليات التدخل الخارجية. وفي مذكراته اللاحقة سوف يروي باول أن قشعريرة أصابته لدى سماعها، وكادت شرايينه أن تتصلب!
هذا تفصيل لا يهمله كاتب مرثية أولبرايت في الـ”واشنطن بوست”، بل لعله كان أكثر انجذاباً إلى تفصيل آخر، عجيب صعب التصديق، هو حكاية اكتشاف أولبرايت أنها يهودية الأصل، وذلك بعد أن بلغت من العمر… 59 سنة، فقط لا غير! كانت الصحيفة تجري معها حواراً، في سنة 1997، حين أعلمها المحاوِر أن أسرتها يهودية، لكنها اهتدت إلى الكاثوليكية بعد الفرار من تشيكوسلوفاكيا إلى لندن خلال الحرب العالمية الثانية؛ فكان أن “فوجئت” أولبرايت بهذه المعلومة، زاعمة أن أهلها لم يخبروها، وأنها لم تكترث بإجراء أي أبحاث حول تاريخ أسرتها. ولم يكن الخبثاء وحدهم هم الذين شككوا في هذه “البراءة”، الصاعقة في زيفها وتكاذبها؛ إذْ كيف يعقل لسيدة تحمل شهادة الدكتوراه في القانون الأهلي والحكم منذ سنة 1976، واشتغلت مع أمثال زبغنيو بريجنسكي، وعملت في إدارة الرئيس الأسبق جيمي كارتر، وكانت وراء تشجيع بيل كلنتون على الترشح للرئاسة الأولى… كيف لها، حقاً، أن تغفل عن “نَكْوَشة” بسيطة في تاريخ أسرتها، رغم معرفتها أن بعض أفراد الأسرة، وهي شخصياً، نجوا من الهولوكوست بفضل “أعجوبة ربانية”؟
كتابها في “الفاشية: تحذير”، الذي صدر سنة 2018، لا يذكر من فاشية النظام السوري سوى بعض العتب على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأنه “وضع ثقله الهائل إلى جانب بشار الأسد، الطاغية الذي تلطخت يداه بدماء آلاف كثيرة”؛ لكن أولبرايت تتجاهل، تماماً، زيارة التعزية والاجتماع مع الوريث للتصديق على نهج التوريث وتأكيد التعاقد ذاته مع الابن، بعد أبيه. ولا يتضمن الكتاب الإشارة إلى أي بُعد فاشي خلف عشرات المجازر التي ارتكبها آل الأسد، الأب قبل الابن، منذ أواخر السبعينيات ومطالع الثمانينيات، ثم على وجه التحديد بعد 2011 مع انطلاق الانتفاضة الشعبية. الفاشية عندها تبدأ من أدولف هتلر أولاً، بالطبع، ولكن بصفة شبه حصرية أيضاً في الواقع؛ وانطلاقاً، كذلك، من ذاكرة الطفولة التشيكية، مسقط رأس الطفلة ماري آنا كوربولوفا التي ستهاجر مع ذويها إلى بريطانيا ثم الولايات المتحدة سنة 1948.
كما اعتبرت أولبرايت أن قتل نصف مليون طفل عراقي ثمن مستحَق، فإن طريقها إلى سلة مهملات التاريخ ليس معبداً مضموناً فحسب؛ بل هو مآل مستحَق، ولعله الأجر الأدنى أيضاً
غير أن العالم على اتساعه كان ساحة اشتغال نظريات أولبرايت في بسط الهيمنة الأمريكية، ومن موقعها في وزارة الخارجية كانت قد أنذرت قادة الاتحاد الأوروبي ألا ينسوا، وهم يعملون على توسيع رقعة الاتحاد، أن أمريكا أنقذت أوروبا من غائلة الجوع عبر “خطة مارشال”، وحفظت أمنها طوال الحرب الباردة من خلال الحلف الأطلسي. وبالتالي، ليس من الوارد، في التقدير الأمريكي، أن أوروبا الغربية (الرأسمالية، الحرة، المعافاة نسبياً بسبب من جميل الولايات المتحدة…) يمكن أن تزدهر أكثر من ازدهار الولايات المتحدة نفسها، وأن توحد صفوفها بالانتقاص من مبدأ الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي! وأما خارج أوروبا، حيث العوالم الثانية أو الثالثة، فإن “ذاكرة أمتنا طويلة، وسطوتنا واسعة”، صرحت أولبرايت في أول تعليق لها على انفجارَي السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام، صيف 1998، قبل أن تعلن تخصيص مكافأة المليوني دولار لمن يدل على هوية الجناة.
وفي ذلك التصريح الشهير امتزجت نبرة التهديد والوعيد بأطروحات فلسفية حول الأسباب الكبرى التي تجعل الأمريكي المعاصر رائداً للديمقراطية والحرية والتسامح، وقائداً للعالم الخير ضد العوالم الشريرة، وهدفاً للإرهاب والإرهابيين. غير أن أولبرايت أثارت سؤالاً بريئاً في مظهره، لكنه أوحى بالكثير من السذاجة المعلَنة: “لماذا يحدث هذا الأمر الرهيب لعدد من الناس كانوا يقومون بعمل خير للغاية”؟ ولقد أجابت بنفسها، هكذا: “لعلهم تعرضوا للهجوم لأنهم يقومون بعمل خير للغاية. ربما أُفردوا لأنهم يمثلون بلداً هو الأعظم عالمياً في الدفاع عن الحرية والعدالة والقانون. ربما لأننا نمثل قِيَم التسامح والانفتاح والتعددية، التي تنهض الآن في كل جزء من أجزاء العالم. ربما لأننا أقوياء، ولأننا نستخدم قوتنا لحل النزاعات التي يريد البعض الإبقاء عليها إلى الأبد”.
ولا تكتمل حصتنا، نحن العرب، من عربدة أولبرايت الدبلوماسية والعسكرية من دون التوقف عند موقفها المتعنت إزاء إعادة ترشيح بطرس بطرس غالي لولاية ثانية في الأمانة العامة للأمم المتحدة؛ وقبل ذلك حول صلاحيات مجلس الأمن الدولي، حين قالت عن غالي: “أليس من المضحك أن يعتقد أنه قادر على استخدام الفيتو ضد سياسات الولايات المتحدة”؟ وفي كتابه “طريق مصر إلى القدس: قصة دبلوماسي عن الصراع من أجل السلام في الشرق الأوسط”، 1997، يروي غالي أنه مُني بأقدار متتالية لم تضعه في وجه الأصوليين (كما تمنى: “في مطلع القرن أقدم متطرفون مصريون على اغتيال جدي [رئيس وزراء مصر آنذاك] لأنه تساهل مع الاستعمار البريطاني؛ ولو أنني كنت إلى جانب السادات يوم مصرعه، لكان المنطق يقتضي أن أخر إلى جانبه برصاص المتطرفين أنفسهم، حتى ولو اختلفت التواريخ وتباعدت الأزمنة”)؛ بل أمام بشر أقرب إلى الأرباب وأبطال الأساطير: السادات، بوصفه فرعون مصر والعقل الوحيد البراغماتي في العالم العربي؛ أو جورج بوش الأب، وريث الملك آرثر في عصور ما بعد الحرب الباردة؛ أو أولبرايت، في هيئة ميدوزا معاصرة تحيل خصمها إلى تمثال حجري…
وكما اعتبرت أولبرايت أن قتل نصف مليون طفل عراقي ثمن مستحق، فإن طريقها إلى سلة مهملات التاريخ ليس معبداً مضموناً فحسب؛ بل هو مآل مستحَق، ولعله الأجر الأدنى أيضاً.
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
“القدس العربي”