لأنّ كارل ماركس كان يكره السلطة الطبقية والمفهومية لرأس المال، فقد دخل في إثم الخطيئات الكبرى، حيث خطيئة الطبقة، وخطيئة الأيديولوجيا، وخطيئة الثورة، ولم تشفع له أطروحاته في الفلسفة وفي الجدل، ولا حتى في نزعاته الهيغلية ذات الرائحة البورجوازية..
ذه التوصيفات الحادة لماركس تحولت إلى تاريخ ملعون، وإلى اتهام «لا واع» وإلى خطيئة مقدسة تتطلب اعترافا دائما وتطهيرا دائما، كما قال القديس أوغسطين، وإلى رهان على سلطة الأيديولوجيا، وعلى قوى الهامش القابلة للتهييج والثورة والتمرد..
في حرب الروس والأوكران استيقظ الغائب الأيديولوجي، ليكون شاهدا على حاضر مأزوم، لا علاقة له بجدليات ماركس المادية والتاريخية، ولا بأطروحاته حول «بؤس الفلسفة» و»الأيديولوجية الألمانية» و»أصل العائلة» وكأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لبس قناع ماركس، وصار جليسه ونديمه في الليالي الحمر، وشاطره «خطيئة» كتابه «البيان الشيوعي» وهذا توصيف هو الأقرب لـ»الخيال الأمني» و»الخيال الثقافي» لإعادة ملاحقة ماركس، والتحريض على طرده من تاريخ الفلسفة، خشيةً من عدواه الثقافية والثورية، رغم أن بوتين لا علاقة له بتاريخ الفلسفة، ولا بمقارباتها المادية والمثالية، ولا بأسئلتها الثقافية، فهو رجل مخابرات عتيد، ورئيس حديدي لدولة كبرى ورثت مزاج القيصر وذكاء لينين الثوري، وصلادة الزعيم ستالين، وهي موروثات سلطوية، وليست فلسفية، ومن الصعب إعادة قراءتها وتوجيهها، والتخلّص من جذرها الجينالوجي، والقبول السهل بنعومة أفكار الغرب الرأسمالي، الذي ما زال ينظر للشرق، ربما أي شرق، بوصفه جغرافيا ملعونة..
تراجيديا الحرب انسحبت إلى الأنساق المضمرة، وجعلت الكثيرين يخشون رهاب تسريباتها النسقية، وعلى نحوٍ قد يتوهمها البعض بأنها تبشير إلى ما يشبه «كومونة» جديدة، وفي «بيان جديد» يمكنهما أنْ يجاهرا بكره الرأسمالية، وبأطروحات السيدين فوكوياما وهنتغنتون عن «نهاية التاريخ» و»صدام الحضارات» وبكره كلّ الحروب الطبقية والعسكرية والأنثربولوجية، التي بات بعضها مكشوفا وفاضحا، عبر ترسيمات اللون واللغة والهوية..
قيام جامعة فلوريدا الأمريكية بتغيير اسم قاعة دراسية تحمل اسم كارل ماركس واستبدالها برقم فقط، يكشف عن هذه الحساسية الأيديولوجية، وعن ذاكرة قديمة لم تغب عنها اوهام الشيوعية، ولا أشباح ماركس ذاته، تلك التي تحدث عنها الفيلسوف التوسير، رغم أن أحد المواقع الأمريكية نشر تقريرا يشرح طبيعة تسميات تلك القاعات الجامعية، وأنها محكومة بمرجعيات تاريخية أدبية وسياسية وفلسفية، ولا علاقة لها بذاكرة الصراع الأيديولوجي، لكن ما حدث يوحي بما يعيدنا إلى ذاكرة الكراهية المكارثية، واسم ماركس، ما زال يملك طعما مراً، وإن وجوده في البرنامج التعليمي سيوقظ الذاكرة الشيوعية التي تقوضت كثيرا، وتغيرت أطروحاتها بعد أن انتهت الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق.. علاقة كارل ماركس بالحرب الأوكرانية، تثير السخرية، وإزالة اسمه من يافطة غرفة للتدريس الجماعي، يضع علامات فارقة على توصيف تلك العلاقة، وكأن الرجل الذي ولد وعاش في ألمانيا، والميت في بريطانيا سيخرج من قبره ليجلس جوار بوتين في غرفته السرية والمحصنة، ليساعده على رسم خريطة طبقية للصراع النووي ضد البورجوازية، ويكشف له العورات الطبقية للرأسمالية.
تغويل الحرب بكل أخطائها، وترحيلها إلى المجال الثقافي سيكون خيارا كارثيا ومحفوفا بالمخاطر، وربما سيكون حافزا لإحياء النزعات الراديكالية في العالم، فرغم أن لوحة القاعة تصف ماركس بأنه «فيلسوف، واقتصادي راديكالي، وناقد ثوري، وأن المدى الفريد لتأثير تفسير ماركس المادي لأساليب عمل المجتمع والاقتصاد والتاريخ، جعلت النظرية الماركسية توسع حتماً تأثيرها إلى النقد الأدبي» إلا أن ما جرى سيثير لغطاً، وربما سيفتح سجالات حول استقلالية الجامعات، وانخراطها في تداولية مفاهيم العنف الثقافي، والعنصرية، والهويات القاتلة والمقتولة، وثنائيات اليمين واليسار والنزعات الشعبوية، وتغذيتها لأفكار التطرف ولتهديد الديمقراطية والحريات والحقوق الأساسية للإنسان.
قيام جامعة فلوريدا الأمريكية بتغيير اسم قاعة دراسية تحمل اسم كارل ماركس واستبدالها برقم فقط، يكشف عن هذه الحساسية الأيديولوجية، وعن ذاكرة قديمة لم تغب عنها اوهام الشيوعية، ولا أشباح ماركس ذاته، تلك التي تحدث عنها الفيلسوف التوسير.
الذهاب إلى الحائط المسلّح
ما أثارته الحرب في أوكرانيا، فتح الباب على سرديات التاريخ، وعلى احتمالات التعويم الثقافي، إذ باتت الكراهية عنوانا، والتضخم أفقا، والصراع حول الهويات عقدة أخلاقية، وتهديدا بحاجات الغذاء والطاقة تجريداً للوعي الثقافي، وتغولاً لمفهوم القوة، عبر اللجوء إلى الحائط المُسلّح، بوصفه نوعا من «الهابيتوس» الذي يجب أن يعتاده المواطن الأوروبي النقي، أو سيراجعه المواطن اللاجئ والمُدمَج، بوصفه جزءا من فكرة الهوية المطرودة..
الحرب على عالمية الثقافة، وأنسنتها، يعني الذهاب إلى خصخصة وإلى هيمنة وإلى سلطة نسقية، تملك مسوغات توجيه الخطاب الثقافي، ليكون خاضعا إلى تغذية عوامل المعركة، كما حدث في تاريخ صراعاتنا العربية حين رُفع شعار «كلّ شيء من أجل المعركة» وهي معارك فاشلة بالطبع، لأن سلطات اللامعركة تغولت، وتعسكرت، وربما صالحت العدو في الخفاء وصولا إلى العلن! الحرب على ماركس، هي تمظهر خفي ومخاتل لحربٍ ثقافية ستتضح ملامحها قريبا، وستنكشف خنادقها، وسيتغير المزاج العولمي إلى عصاب أقلّوي، تتحصن عنده الجماعات والهويات، وسترفع الشعارات الرنانة التي تروّج لهذه الجماعة او تلك، ترهيبا أو قلقا، أو خشية من هيمنة الآخر، وربما ستتحول إلى استراتيجيات، تتحفز فيها قوى اليمين، أو اليسار الراديكالي للسيطرة على السلطة، واتخاذ الإجراءات الحادة والعنفية، التي ستُزيد من ميزانيات التسلّح، مقابل تخفيض دعم برامج التنمية، والأخطر في هذا المعنى هو إعادة توجيه برامج وسياسات التعليم والأمن الثقافي، لتكون جزءا من سايكوباثيا المعركة، ما يعني العودة إلى الصراع الثقافي، باردا كان أم ساخنا، وسنجد انفسنا أمام مطارات وحدود ورقابات أمنية تُفتش في أسمائنا وفي سحناتنا وفي لهجاتنا عن المختلف، وعن المفارق، وعلى نحوٍ قد يجعلنا مطرودين، وهو ما صرح به أحد المرشحين للرئاسة الفرنسية، بأنه سيعيد اللاجئين إلى فرنسا إلى بلدانهم، لحماية العرق الفرنسي من المخالطة الهجينة، ومن المثاقفة المالحة.
ماركس لم يعد ماركسيا
لا أثق بطموطمية ماركس، ولا حتى بتقسيم التوسير لـ»ماركس الشاب» ذي النزعة الهيغلية، ولا ماركس الشيخ الذي ذهب إلى العلم، وإلى مقاربة رأس المال، لأنّ التاريخ الذي يشبه البلدوزر يمكنه سحق التفاصيل، وتغيير مساراتها، وحتى تقويض «السرديات الكبرى» التي يمكن أن تكون الماركسية جزءا منها، وهذا لا علاقة له بالقطيعة الأبستمولوجية، بل بطبيعة المتغيرات الحادة والسريعة التي باتت تحكم العالم، وتعيد إنتاج الأفكار والهيمنات، وحتى الأدلجات، إذ خرج ماركس من التاريخ، ليدخل المتحف، مثلما خرجت الشيوعية من نظام التداول لتدخل في حيز ثقافي، فيه من الرومانسية، أكثر من الواقعية، ويكتفي بتذكير البشرية بالحلم، والثورة الدائمة، وبفكرة التطهير الثقافي. إن ما حدث في جامعة فلوريدا الأمريكية يفضح نزعات تمثيلية اللاوعي المكارثي، عن خطورة التوظيف الثقافي في المؤسسات التعليمية، وهذا ما قد يكون سببا في تهييج وعي ضدي خبيء، أو وعي تحكمه المتغيرات، ليُعيد إنتاج خنادقه، وأطروحاته، وأسئلته، وشعاراته، وربما مظاهر عنفه وتطرفه، لاسيما وأن العنف العنصري في الولايات المتحدة خلال رئاسة رونالد ترامب، شهد تمظهرات ثقافية عنيفة شملت دولا أخرى، عبر الاحتجاجات الحقوقية، وعبر إسقاط تماثيل رؤساء ورموز تاريخية، وقادة ارتبطت أسماؤهم بحملات الاضطهاد العنصري.
الخوف من ماركس قد يعيد بعض أشباحه، وقد يدفع البعض إلى العودة لقراءة سيرته، وإلى تفتيش ملفاته الشخصية، بوصفه زعيما راديكاليا، وليس فيلسوفا، وباتجاه أن يكون منصة للاحتجاج على الحروب، ولمواجهة أزمات التضخم التي تعيشها أوروبا، وتغوّل العنف الرأسمالي، وهذه الاستعادة ستكون طاردة، فهي تطرد الثقافي لتستعيد السياسي، والاقتصادي، وتدفع أصحاب الهامش الطبقي في أوروبا وغيرها، وحتى الهاربين من الحرب، واللاجئين إلى أوهام الحلول الإنسانية للبحث مرة أخرى عن الحلم، بقطع النظر عن هوية ماركس الذي لم يعد ماركسيا، والذي لا يمكنه أن يطمئن إلى صداقات عنيفة مع السيد بوتين او السيد بايدن او السيد جونسون او ماكرون او حتى السيد زيلينسكي…
كاتب عراقي
“القدس العربي”