تتمخّض الصراعات الكبرى الخارجية والداخلية، عن نتائج خطيرة، لا تقتصر على مكان اندلاعها وزمانه، بل تتمادى في الزمن لعقود وعقود وتمتد على غير منطقة عالمية، وتترك آثارها على الأنشطة البشرية المختلفة، ومن ضمنها الأدب. والحرب الروسية على أوكرانيا، لا تخرج عن هذا السياق؛ فتداعياتها الخطيرة لا تنحصر في مكان حدوثها وزمانه، بل تمتد لتشمل العالم بأسره، بشكل أو بآخر، وسوف تستمر إلى عقود لاحقة، والأدب والفكر ليسا بمنأى عن ذلك. لعلّ بعض أواخر هذه التداعيات يتمظهر في ما تناقلته وسائل الإعلام، في الأيام الأخيرة، عن واقعتين اثنتين أقدمت عليهما جامعتان غربيّتان بفعل الحرب، وتنطويان على دلالات خطيرة، كنّا نعتقد أن الشمال قد تجاوزها، وباتت حكرا على الجنوب وما يتخبّط فيه من مشاكل وأزمات، ما أنزل الله بها من سلطان.
الواقعة الأولى تتمثّل في قيام جامعة بيكوكا الإيطالية، الكائنة في ميلانو، بمنع تدريس أعمال الكاتب الروسي الشهير فيودور ديستويفسكي، من خلال إلغاء دورة دراسية عن نتاجه الأدبي، كان من المقرر انطلاقها بإشراف الأستاذ باولو نوري، وهو ما حصل بقرار إداري من رئيس الجامعة، بذريعة واهية تتعلّق بتجنّب أي شكل من أشكال الجدل في لحظة توتّر شديد، وهو عذر أقبح من ذنب، فأين يمكن أن يحصل الجدل، إذا ما ضاقت به أسوار الجامعة؟ أليست هذه الأخيرة هي المكان الطبيعي لطرح الإشكاليات وإخضاعها للبحث والتدقيق حتى يتّضح الخيط الأبيض فيها من الخيط الأسود؟ ثمّ، أليس الجدل، باعتباره شكلا من أشكال الحوار، هو الوسيلة الفضلى لبلوغ الحقيقة وإزالة التوتّر؟
الواقعة الثانية لا تختلف عن الأولى في المضمون، وإن كانت تختلف عنها في الشكل، وتتمثّل في إقدام جامعة فلوريدا الأمريكية على إزالة اسم الفيلسوف كارل ماركس من إحدى قاعات التدريس فيها، وتسميتها بـ»غرفة الدراسة الجماعية 299» واستبدال الرقم بالإنسان، وبقرار إداري أيضا، وبعذر لا يقلّ قبحا عن الأوّل، فقد عزت مديرة ، وإن اختلفت عنهما في الدوافع والمنطلقات، كي نستطيع المقارنة بين الأمس واليوم، ونتلمّس اتجاه المتغيّرات المستجدة على هذا الصعيد، وسنكتفي بالإشارة إلى أربع وقائع، حصلت في القرن العشرين، في الاتحاد السوفييتي السابق، في ظل الحكم الشيوعي، وتعكس نمط التفكير وآليات اشتغاله في الأنظمة التوتاليتارية وما تتركه من آثار مدمّرة على الإنسان.
الواقعة الأولى تتمثّل في قيام السلطة البلشفية في عام 1922 بترحيل 125 أديبا ومفكّرا وفيلسوفا روسيّا من المعارضين للحكم الشيوعي، بواسطة باخرة أُطلق عليها اسم «باخرة الفلاسفة» وقد برّر تروتسكي هذا الإجراء بمنتهى الصفاقة حين قال: «إنّنا نرحّل هؤلاء الناس لأنّه ليس ثمّة مبرّر لإعدامهم، لكننا لا نحتمل بقاءهم». ما أسهل إعدام المعارضين في الأنظمة التوتاليتارية! ولعلّه كان ينبغي توجيه الشكر إليه لأنه لم يفعل ذلك.
الواقعة الثالثة تتعلّق بمحاكمة الكاتبين أندري سينيافسكي وجرانين دانييل، خلال عامي 1965 و1966، والحكم عليهما بالسجن، بدعوى تسريب بعض أعمالهما المحظورة ونشرها خارج البلاد. وبذلك، لا يقتصر الحظر على حدود الدولة الحاظرة، بل يتعدّاها إلى ما وراء الحدود، وكأن التضييق على حرية الإبداع يكون عالمياّ أو لا يكون، من منظور الأنظمة الكلية.
الواقعة الثانية تكمن في جمع خروتشوف، في عام 1963، الأدباء الروس الشباب في إحدى قاعات الكرملين بحضور الأدباء الكبار، والقيام بتهديدهم باتخاذ الإجراءات اللازمة بحقّهم، ما لم يلتزموا بالمدرسة الواقعية الاشتراكية، وهكذا، يتحوّل الأدباء في ظل الأنظمة الكلية إلى آلات تنتج الأدب بمواصفات معيّنة ويتحوّل الإبداع إلى منتج سلطوي.
الواقعة الثالثة تتعلّق بمحاكمة الكاتبين أندري سينيافسكي وجرانين دانييل، خلال عامي 1965 و1966، والحكم عليهما بالسجن، بدعوى تسريب بعض أعمالهما المحظورة ونشرها خارج البلاد. وبذلك، لا يقتصر الحظر على حدود الدولة الحاظرة، بل يتعدّاها إلى ما وراء الحدود، وكأن التضييق على حرية الإبداع يكون عالمياّ أو لا يكون، من منظور الأنظمة الكلية.
الواقعة الرابعة والأخيرة تتجسّد في الحكم على الشاعر جوزيف برودسكي بالنفي إلى أقصى الشمال الروسي، ونزع الجنسية منه، وطرده إلى خارج البلاد، في سابقة يبلغ فيها التضييق على حرية التعبير الذروة، بتجريد الكائن المبدع من هويّته الوطنية، وحرمانه حق الإقامة في وطنه. وهكذا، تتفاوت الإجراءات القمعية في ظل الحكم الشيوعي، وتتراوح بين الترحيل الجماعي والتهديد والسجن والنفي ونزع الجنسية والطرد خارج البلاد.
في المقارنة بين الوقائع التي حصلت في الاتحاد السوفييتي السابق في القرن العشرين، وتلك التي تحصل حاليّا في إيطاليا والولايات المتحدة، نشير إلى أنّ ثمة فوارق كبيرة بين المرحلتين، في مصدر الإجراءات المتّخذة وطبيعتها والفئة المستهدفة بها والخلفيات الصادرة عنها. ففي المرحلة الأولى، صدرت الإجراءات عن سلطة سياسية تطبّق نظام الحزب الواحد، وتتّسم بالقسوة والتطرّف، وتستهدف أدباء أحياء معارضين، وتصدّر عن خلفية محض سياسية. بينما في المرحلة الثانية الراهنة، نراها تصدر عن سلطة أكاديمية، وتتّسم بنعومة مبطّنة، وتستهدف كتّابا أمواتا بعد 139 عاما من الموت، كما في حالة كارل ماركس، و141 عاما، كما في حالة فيودور ديستويفسكي، وتصدّر عن خلفية عنصرية واضحة.
بعيدا من منطق التبرير، فإنّ صدور مثل هذه الإجراءات، منذ قرن أو أقل، عن سلطة مستبدّة، لا تؤمن بالتعدّدية السياسية، ولا تسمح بوجود المعارضة، وتضيق ذرعا بحرية التفكير والتعبير، وتجاهر بذلك على رؤوس الأشهاد، يبدو متناسبا مع أدبيات هذه السلطة ومنسجما مع تاريخها، لاسيّما حين تبرّرها باعتبارات قومية وأممية، وإن كنّا لا نُقرّها على ذلك. أمّا أن تصدر مثل هذا الإجراءات عن سلطة أكاديمية يُفترَض أن تُحكّم العقل في ما تتّخذه من قرارات، وفي عالم يرفع لواء حقوق الإنسان، ويباهي بالقيم الليبرالية، ويؤمن بحرية الفكر والكلمة، وأن تستهدف كتّابا مضى حوإلى قرن ونصف القرن على رحيلهم لمجرّد انتمائهم إلى جنسية المعتدي، كما في حالة ديستويفسكي، أو احتسابهم عليها، كما في حالة ماركس، فتلك عنصرية واضحة تتناقض مع الأدبيات الغربية في حقوق الإنسان. ولعلّ أخطر ما في هذه الإجراءات أنها تصدر عن مؤسسات أكاديمية معروفة ولا تصدر عن أفراد، كما قد يتبادر للبعض. وفي هذه الحالة، ما الذي يميّز الغرب عن الشرق؟ وبماذا تفضل الأنظمة الليبرالية تلك الشمولية الكلية؟ ومع ذلك، يأتي الاعتراض على الإجراءات المتخذة في وسائل التواصل الاجتماعي ومحاولة متّخذها توضيحها أو التراجع عنها، أو التنصّل منها لتبقي باب الأمل مفتوحا لإعادة وضع الأمور في نصابها.
وبعد، لعلّ ما يميّز الغرب، بشقّيه الأوروبي والأمريكي، عن سواه من العالم هو هامش الحرية الكبير الذي يتيحه، والحرص على تمتّع الإنسان بحقوقه المشروعة، هذا إذا ما استثنينا الحنين إلى الماضي الاستعماري الذي يطلّ برأسه بين فترة وأخرى، وحين ينتفي هذا التمايز نصبح جميعنا في الهمّ شرقا. إن الانتصار لأوكرانيا وحقّها في تقرير المصير لا يبرّر، في حال من الأحوال، الإجراءات المتّخذة بحق ديستويفسكي وماركس لمجرد روسية الأول وتوهّم روسية الثاني، فتلك قمّة العنصرية. وما مبرّر وجود الغرب كحالة حضارية متقدّمة في هذه الحالة؟
كاتب لبناني
“القدس العربي”