تسبَّبت الحرب الروسية-الأوكرانية في أزمة حادة للحكومة الإسرائيلية وللائتلاف الحاكم، نظراً للضغوط التي مثَّلتها هذه الحرب على الموقف الإسرائيلي التقليدي المتبع منذ تفجر الأزمة بين موسكو وكييف عام 2014، عندما احتلت روسيا شبه جزيرة القرم؛ فالحسابات الإسرائيلية كانت تسعى باستمرار للحفاظ على موقف وسط محايد حتى لا تدفع ثمن الوقوف إلى جانب أي من الطرفين.
فقد وضعت الحكومة الإسرائيلية في اعتبارها عدم خسارة روسيا وكسب عداء هذه القوة العظمى لاعتبارات تتعلق بالمصالح الإسرائيلية المباشرة مع موسكو، وأيضاً بسبب الوجود العسكري الروسي على الأراضي السورية على النحو الذي دفع بعض المحللين الإسرائيليين إلى القول بأن روسيا باتت دولة جوار لإسرائيل من خلال حضور قواتها الجوية في اللاذقية والبحرية في طرطوس على الأراضي السورية. أيضاً، رأت الحكومة الإسرائيلية السابقة أن العلاقات مع موسكو مهمة للغاية بسبب العلاقات الروسية-الإيرانية، ورغبة تل أبيب في الاحتفاظ بعلاقات إيجابية مع موسكو لمراقبة كل ما يجري بشأن البرنامج النووي الإيراني، لاسيما بعد توقيع الاتفاق النووي مع الدول الغربية عام 2015، والفتور الذي أصاب العلاقات بين تل أبيب وواشنطن في أواخر عهد إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما. لكن تل أبيب لم تكن ترغب في مزيد من التوتر مع واشنطن، إضافة إلى رغبتها في الحفاظ على موقف لا يعرض الجالية الإسرائيلية في أوكرانيا للخطر أو يُعرِّض اليهود الأوكرانيين (وعددهم حوالي خمسين ألفاً) لأية مشاكل.
لكل ذلك اختارت تل أبيب سياسة الحياد تجاه الأزمة الروسية-الأوكرانية منذ تفجرها عام 2014، ورغم الضغوط الأمريكية على تل أبيب للتصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لمصلحة قرار يدين ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم، فإن تل أبيب اختارت الامتناع عن التصويت، وهو ما أرضى روسيا وأثار غضب واشنطن.
تل أبيب ودبلوماسية “السَّير على الحِبال”
عندما اجتاحت موسكو أراضي أوكرانيا، حاولت حكومة اليميني نفتالي بينيت مواصلة سياسة الحياد واتباع سياسة متوازنة بين الطرفين المتصارعين، لكن الشريك في الائتلاف الحكومي وممثل يسار الوسط، وزير الخارجية يائير لابيد كان يميل إلى الوقوف بجانب أوكرانيا، وإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، وجاء طلب الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي في بداية الحرب وساطة رئيس الوزراء الإسرائيلي لوقف الحرب ليخفف من حدة الانقسام داخل الحكومة الإسرائيلية ويُقوّي من موقف رئيس الوزراء المؤيد للاستمرار في سياسة الحياد، إلا أن رفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للوساطة الإسرائيلية جاء ليقوي من موقف وزير الخارجية يائير لابيد المؤيد لإدانة الغزو الروسي والتضامن مع أوكرانيا، وهو ما حدث بالفعل، لاسيما بعد انتظام غالبية الدول الغربية في إدانة الغزو الروسي. وقد بادر وزير الخارجية لابيد إلى إدانة روسيا، مؤكداً في 24 فبراير الماضي أن “الهجوم الروسي على أوكرانيا انتهاك خطير للنظام الدولي، وأن إسرائيل تدين الهجوم الروسي على أراضي أوكرانيا”.
في المقابل، واصل رئيس الوزراء نفتالي بينيت المحافظة على سياسة الحياد عبر التأكيد على “دعم وحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها”، دون أن يشير إلى روسيا من قريب أو بعيد. وقد أثار انتقاد وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد للعملية العسكرية الروسية غضب موسكو التي ردَّت على هذه الإدانة الإسرائيلية، مؤكدة أن موسكو لا تعترف بقرار إسرائيل ضمّ هضبة الجولان السورية، ولا تعترف بقرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بهذا الضم.
وكان واضحاً أن فشل الحكومة الإسرائيلية في الحفاظ على سياسة الحياد تجاه النزاع الروسي-الأوكراني جاء بسبب الانقسام داخل الائتلاف الحاكم من ناحية، ونتيجة الضغوط الأمريكية والغربية عامة على تل أبيب، وإدراك موسكو منذ اللحظة الأولي لانفجار الصراع المسلح أن الموقف الإسرائيلي يَميل إلى الجانب الأوكراني، وأن إسرائيل رأت أن روسيا في موقف حرج وأن الغرب ضرب حصاراً خانقاً على بوتين، وأن هذا الصراع يمكن أن ينتهي بروسيا ضعيفة ومعزولة عن العالم، ومن ثمَّ فهي فرصة للالتحاق بالموقف الغربي ضد روسيا – صديقة سوريا وإيران.
وجدت إسرائيل في طلب الوساطة من قبل الرئيس الأوكراني فرصة للتخلص من مأزق التأرجح بين موسكو وكييف، والعجز عن اتخاذ موقف واضح إلى جانب أيٍّ من الطرفين المتصارعين
وبمرور الوقت، ومع استمرار العملية العسكرية الروسية في الأراضي الأوكرانية، واندفاع الولايات المتحدة والدول الغربية في فرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا، وإصرار الرئيس بوتين على مواصلة الحرب إلى حين تحقيق جميع المطالب الروسية، وتراجع حلف شمالي الأطلسي (الناتو) ومن بعده واشنطن عن تقديم الدعم العسكري المباشر لأوكرانيا، ومبادرة الرئيس الأوكراني زيلينيسكي لطلب وساطة رئيس الوزراء الإسرائيلي للمرة الثانية، وجدت الحكومة الإسرائيلية نفسها أمام ما اعتبرته “فرصة نموذجية” للعب دور الوسيط في وقت عجزت العواصم الأوروبية الغربية (وتحديداً برلين وباريس) عن لعب هذا الدور بسبب مجاراتها لواشنطن في فرض العقوبات على روسيا، والنخبة السياسية والاقتصادية الروسية.
وجدت إسرائيل في طلب الوساطة من قبل الرئيس الأوكراني فرصة للتخلص من مأزق التأرجح بين الجانبين والعجز عن اتخاذ موقف واضح إلى جانب أي من الطرفين؛ فلكل موقف ثمن اعتبرته باهظاً، سواء إلى جانب أوكرانيا والغرب فتكسب عداء موسكو – القوة العظمى التي باتت على حدودها الشمالية، أو إلى جانب روسيا فتخسر الحليف الاستراتيجي الذي يمدها بالمساعدات الضخمة ويتعهَّد بتفوقها الكيفي والنوعي على جيرانها كافة.
وقد تلقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت طلب الرئيس الأوكراني له بالتوسط لدى روسيا، على الرغم من إدراكه التام لصعوبة المهمة، وتضاؤل احتمالات النجاح. وشرع في إجراء الاتصالات التي تؤمن له لعب هذا الدور، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس الروسي بوتين الذي وافق على هذا الدور، ولكنه طلب من رئيس الوزراء الإسرائيلي طلباً ظنَّه تعجيزياً، وهو أن يأتي إلى موسكو يوم السبت، وهو اليهودي اليميني المتدين الذي لا تقرّ له الشريعة اليهودية القيام بأي عمل أياً كان من غروب شمس الجمعة إلى غروب شمس السبت؛ فعلى مدار هذا اليوم يتوقف كل شيء في إسرائيل حتى طائرات شركة “العال”، والطائرات الإسرائيلية لا تطير خلال هذه الفترة، كما تتوقف أيضاً جميع الأنشطة ومظاهر الحياة في إسرائيل. ومع ذلك قَبل بينيت طلب بوتين ونفَّذ الزيارة في يوم السبت. وحرصاً على مواصلة سياسة الحياد أو دبلوماسية السير على الحبال، أجرى رئيس الوزراء الإسرائيلي اتصالاته بواشنطن للحصول على ضوء أخضر للزيارة، وهو ما تم بالفعل.
لقد أقدم رئيس الوزراء الإسرائيلي على هذه الخطوة، كما أشرنا آنفاً، وهو يعلم تماماً أن احتمالات النجاح ضئيلة للغاية، لكنّه أراد تلبية طلب الرئيس الأوكراني الذي يشعر بخذلان واشنطن والغرب له وتركه في مواجهة الآلة العسكرية الروسية، ومن ناحية ثانية لتأكيد موقف بلاده المحايد في هذه الأزمة. تمَّت الزيارة يوم السبت الموافق الخامس من مارس الجاري، والتقى بينيت خلالها بالرئيس بوتين وأجرى معه حواراً مطولاً بدا واضحاً أنه لم يُسفِر عن أي شيء، وغادر موسكو إلى برلين والتقى هناك بالمستشار الألماني أولاف شولتس، وهاتف الرئيس الأوكراني، واستمرت الأوضاع الميدانية كما هي، حيث واصلت روسيا عملياتها العسكرية في أوكرانيا، واستمر الرئيس الأوكراني في اتهام واشنطن والغرب بالتخلي عنه ووقفت الدول الغربية عاجزة عن القيام بدور وساطة بعد أن اندفعت في طريق فرض العقوبات على روسيا، فأضاعت فرصة قيام أي منها بلعب دور الوسيط المقبول والقادر على طرح حلول وسط بين الطرفين تصلح لبدء مفاوضات جديَّة.
ورغم فشل جهود الوساطة الإسرائيلية، وعجز إسرائيل عن مساعدة الرئيس الأوكراني، فقد واصلت تل أبيب سياسة الحياد، وهو الأمر الذي أرضى موسكو لكنه لم يُعجب الولايات المتحدة وأغضب أوكرانيا التي هاجمت الموقف الإسرائيلي، حيث كتب وزير الخارجية ديميترو كوليبا تعليقاً على استمرار طيران العال في تسيير الرحلات إلى روسيا خلافاً للقرارات الغربية بوقف حركة الطيران إلى الأراضي الروسية: “طيران العال يَجني الأموال بدماء الأوكرانيين رغم العقوبات الدولية المفروضة على موسكو”.
من المُرجَّح أن الحكومة الإسرائيلية ستعمل جاهدة على مواصلة اتباع سياسة الحياد بين الطرفين الأوكراني والروسي، وهو حياد يُرضي موسكو لكنه يُزعِج واشنطن ويُغضِب كييف
الحياد الصعب
المؤكد أن الحكومة الإسرائيلية في وضع صعب ومعقد؛ فلا هي تستطيع إعلان تأييد أي من طرفي الصراع، في ظل حساباتها الدقيقة للغاية، وتجنُّباً لأي خطوة تفهم بأنها تأييد لأي من الطرفين، وقد يكون لها ثمن باهظ ليس باستطاعة تل أبيب دفعه، وتحديداً لا يمكن للحكومة الإسرائيلية إعلان تأييدها للموقف الأوكراني لأن عواقب ذلك ستكون وخيمة في فترة ما بعد انتهاء هذه الحرب على أي وضع من الأوضاع؛ فروسيا الاتحادية، التي هي قوة عظمى اليوم ستظل كذلك بعد انتهاء الحرب، وسوف ترد على هذا الانحياز الإسرائيلي عبر اتخاذ مواقف أكثر حدة ضد إسرائيل في كل ما يخص قضايا المنطقة، لاسيما أن موسكو باتت لاعباً قوياً في قضايا الشرق الأوسط، سواء تعلق الأمر بالقضية الفلسطينية أو الملف السوري، والأكثر أهمية ملف إيران النووي، وهو الأمر الذي سوف تتزايد أهميته في الفترة المقبلة، وتحديداً فيما يخص المفاوضات الجارية حول برنامج إيران النووي، والذي تشعر تجاهه إسرائيل بقلق شديد للغاية، وترى أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تندفع بقوة من أجل العودة لاتفاق 2015، الأمر الذي تراه إسرائيل خطراً شديداً عليها وما فتئت تُهدد من حين إلى آخر بضرب هذا البرنامج.
لكل ذلك من المُرجَّح أن الحكومة الإسرائيلية ستعمل جاهدة خلال الفترة المقبلة على مواصلة اتباع سياسة الحياد بين الطرفين الأوكراني والروسي، وهو حياد يُرضي موسكو تماماً لكنه يزعج واشنطن ويُغضِب كييف؛ والحسابات الإسرائيلية هنا تذهب إلى أن لدى إسرائيل ويهود الولايات المتحدة أوراق تمكنهم من الحد من التداعيات السلبية لهذا الانزعاج الأمريكي، أما الغضب الأوكراني فسوف يتم احتواؤه بعد انتهاء الصراع والذي معه سيرحل الرئيس الأوكراني والنخبة السياسية التي يصفها بوتين بالقومية المتشددة، ومن ثمَّ فالاحتمال الأكبر هو مواصلة إسرائيل لسياسة الحياد تجاه الصراع في أوكرانيا ما لم تحدث تطورات مفاجئة غير متوقعة.
“مركز الإمبارات للسياسات”