عندما يمتدح الشاعر السوري نزيه أبو عفش الغزو الروسي لأوكرانيا، ويبرئ جنود بوتين من مجارز وحشية، لأنهم ليسوا «قراصنة أمريكيين»، مطلقا على نفسه لقب «الشاعر الروسي»، تأييدا وتضامناً لـ»عملية» موسكو، فإن السؤال حول دوافع هذا المثقف للانحياز نحو المجزرة ومرتكبيها، يتجاوز الاصطفاف السياسي المباشر، وينشغل أكثر بتكوين عفش الثقافي، حيث الوعي اليساري المأزوم، والتفكير بالسياسة شعرياً، والأصل الذي ينتقم لقمعه بصوفية مسيحية. والعناصر الثلاثة تلك غالبا ما تتداخل وتتمازج، فيستحيل التميز بينها، وتحديد مساحة كل منها وتأثيرها، في تشكيل وعي أبو عفش.
فمثلا، ضعف اليسار في العالم عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، لم يكن بالنسبة لأبو عفش، وعدد لا بأس به من المثقفين السوريين الذين يشبهونه، محطة للمراجعة وإعادة النظر في منظومة قيم، حكمت مساراً كاملا، من التفكير في العالم واتخاذ المواقف حيال تحولاته، وشكلت بيئة خصبة للاستبداد، ولا حتى محطة، لتعديل بعض المفاهيم وإسباغ ليبرالية ما عليها، كما حدث مع اليسار الغربي. على العكس، جرت شعرنة الحدث بوصفه «هزيمة للأحلام الكبرى»، وانكسارا لـ»مشروع تنويري»، وذلك أنتج حالة من الإنكار تُرجمت بتصلب وعدمية، حيث لا بد من أن يطغى «الحزن» و»التشاؤم»، و»اليأس» في النظر إلى العالم، على العقلنة، والالتحاق بالتغيير، وحجز موقع في التحولات التي تحصل.
قراءة التحولات بوصفها «هزائم» وتأويلها شعرياً لتصبح عدميات صلبة، كشف أن الانتماء لليسار عند هؤلاء، لا يقوم على أسس عقلانية قابلة للنقد والتجاوز، بل يقوم جزئياً على ما هو شعري. فالعدالة الاجتماعية، ليست مفهوما يتعين في الواقع ويجري الاشتغال عليه، ليتحقق ويستفيد منه البشر، هي دعوة كونية مطلقة، تحضر في روايات الأدب الروسي، وعلى لسان شخصيات متخيلة، وعبر مقولات «خالدة». الأمر ليس بعيداً عن الكسل في إنتاج يساري محلي ينشغل بتقريب النظريات إلى الواقع السوري، وإنتاج مقاربات لتطبيقها. أبو عفش، ينتمي إلى هذا المسار من الكسل، لكن، مع تصعيده درامياً، ونقله إلى الشعر، ليصبح «محنة» و»هزيمة» و»عدماً»، ويُعبر عنه بالقصائد والروايات والنصوص النثرية.
الانحياز نحو المجزرة ومرتكبيها، يتجاوز الاصطفاف السياسي المباشر، وينشغل أكثر بتكوين عفش الثقافي، حيث الوعي اليساري المأزوم، والتفكير بالسياسة شعرياً
الشعر الذي يستنطق السياسة ويقوم بتأويلها، يغرق عند أبو عفش في صوفية مسيحية يسهل ملاحظتها في الكثير من دواوينه، حيث الأصل الأهلي – الطائفي، الذي لم تمسه الأيديولوجيا اليسارية المشعرنة، وجرى إنكاره والتحايل عليه، ينتقم لنفسه بالظهور في القصائد، الأرجح أن الأصل لديه بقي شعور أقلوي، منفي بالأيديولوجي الزائف، وغير قابل للتطوير، ليصبح وعيا طائفيا واضحا. ولأن الصوفية، على ما يقول الراحل صادق جلال العظم في كتابه «نقد الفكر الديني» هي «تعميق ذاتي وروحي للدين وتحويله من عقائد جامدة إلى إحساسات ذاتية وشحن لأشكاله الفارغة بعاطفة حارة متدفقة»، فإن الصوفية تتكفل بالتعبير عن الأصل المسيحي المقموع والحائر، عند أبوعفش، وتصعيد هذا الأصل درامياً، ليتقاطع ضمن لعبة الشعرنة، مع علاج انهيار اليسار، فتصبح مفردات «الألم» و»الحزن» و»اليأس»، ملتبسة الوظيفة، هل هي تعبير عن فوات الأيديولوجيا، أم فوات الأصل؟ وبصرف النظر عن هذا الالتباس، ومحاولة فرز تداخله، فإن النتيجة واحدة، تجاهل البشر والضحايا واللاجئين والمعتقلين، وأحياناً التحريض عليهم، إذ يكتب أبو عفش على حسابه الفيسبوكي «أيها الروس الرائعون إذا كان لا مهرب من إلصاق المجزرة بكم … فاقترفوها». ففلاديمير بوتين، بتبنيه وعيا إمبراطوريا (الاتحاد السوفييتي)، وهوية أحد عناصرها الأرثوذكسية، هو مثال نموذجي يحاكي عجزين، لدى الشاعر المنعزل في قريته في وادي النصارى، في ريف حمص، عجزه عن أن يكون يسارياً عقلانياً قابلا للتغيير والمراجعة، وعجزه عن أن يحسم علاقته بالأصل المسيحي، إما نفياً أو اعترافاً، وبين علاج هذه وعلاج تلك، الكثير من الشعرنة والصوفية. ليبقى مديح المجزرة، النشاط الأكثر ملائمة، للشاعر العدمي «اليائس» من العالم.
*كاتب سوري
“القدس العربي”