حفلت الميديا في الأشهر الأخيرة بشكاوى بعض الكتاب أو الممثلين في مصر من ضيق المساحة لهم في المسرح أو السينما أو التلفزيون. كثيرون منهم على حق إن لم يكن كلهم.. كثيرا ما ظهرت على الميديا نداءات من أجل الممثل الفلاني، أو شكوى من كاتب مسرحي لا يجد مسرحا لأعماله، أو كاتب مسلسلات أو أفلام.
لن أذكر بعض الأسماء التي شاع ذلك عنها، فهم لم يحبوا ما قيل عنهم في ذلك، فهم لا يستجدون، لكنها الميديا لا أدري كيف يصلها ذلك ولا تنفجر. السبب الواضح طبعا هو انحسار المسرحيات، وقلة عدد الأفلام والمسلسلات قياسا بطول العام. المسلسلات تتكدس في رمضان، بينما تمضي بقية العام تقريبا بالقليل منها. أما الأفلام فقد قلّت عما عرف عن تاريخ السينما في مصر. المسرح تقريبا أصابه الكساد. تتم بعض العروض المسرحية في الأقاليم بعيدا عن أضواء القاهرة، ورغم قيمة ذلك لا يكاد يشعر بها أحد. طبعا الحالة النفسية لأيّ ممن يشعرون بالظلم يمكن أن تصور له الأمر مؤامرة عليه، أو على أقل تقدير نسيانه، وهو من هو في حرفته. كل ذلك يمكن قبوله ولا لوم على أحد لا يجد فرصته. لكن الموضوع أثار في نفسي سؤالا من جانب آخر. وهو أنه بين أشكال الإبداع المختلفة، قد يكون الأسعد حظا هم من وهبهم الله في الإبداع الذاتي. ما يجعلني أقول ذلك هو حياتي وإخلاصي للقصة والرواية.. وتجربة صغيرة في الكتابة التلفزيونية لم استمر فيها.. شغلت ثلاث سنوات في بداية هذا القرن، وعدت إلى بيتي وهو الرواية.. أمضيت حياتي أكتب وليس في ذهني أحد.. كل ما سأحتاجه هو ناشر للعمل وما أكثرهم.
الإبداع الذاتي يتيح لصاحبه أن يبدع بصرف النظر عن الآخرين، وليس لأحد التدخل في ما يكتبه. ينطبق هذا أكثر ما ينطبق على كتاب القصة والرواية والشعر والفن التشكيلي. لا أحد يكتب الرواية وفي ذهنه أن يُرضي أحدا غير نفسه. الأمر نفسه مع الشعر، وكذلك يفعل الفنان التشكيلي أمام لوحته التي يرسمها، هو الذي يحدد مساحتها ومادة رسمها وشكلها في النهاية، وحتى لو تعثرت الدنيا أمام الكاتب في نشر ديوان أو رواية في بلده لأسباب رقابية، فيستطيع أن يرسلها للنشر في بلد آخر، وحين كانت لدينا رقابة مُسبقة على النشر استمرت حتى ألغاها السادات عام 1979، كان الكثيرون يرسلون أعمالهم إلى بيروت.. أعمال روائية وقصصية وفكرية وسياسية. وكان المثل الشائع «مصر تكتب وبيروت تطبع والعراق يقرأ». وحتى بعد ذلك كان يمكن أن تجد ناشرا يعتذر عن النشر لأسباب مختلفة يراها هو تحمله مسؤولية لا يريدها، فالكاتب يستطيع أن ينشر عمله خارج بلده. أذكر أني عرضت روايتي «البلدة الاخرى» في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، على أكثر من ناشر مصري واعتذر عنها، لأن أحداث الرواية في السعودية، أرسلتها إلى دار رياض الريس في بيروت فنشرتها. الأمر نفسه كان يحدث مع كتاب سعوديين قبل أن تتسع الحياة مع قرار الملك عبد الله بدخول الأعمال المنشورة في الخارج إلى المعرض السنوي للكتاب في الرياض أو جدة دون رقابة. اتسع الأمر أكثر الآن وأصبح النشر هناك أسهل من ذي قبل، كما أصبح «الفَسْحْ» كما يسمونه، وتعني الموافقة على توزيع الكتاب، أكثر رحابة إلى حد كبير جدا عن ذي قبل.
أقصد من هذا أن أوضح أن عدم نشر الكتاب في بلد ما هو أقصى ما يمكن أن يواجهه صاحب الرواية أو ديوان الشعر، ويمكن له أن ينشر كتابه في بلد آخر بسهولة. هكذا يظل كاتب الرواية أو القصيدة أو راسم اللوحة بغير حاجة لأحد، طبعا هناك في العالم وظيفة المحرر في دور النشر الكبرى، ومن البداية يعرف الكاتب أن المحرر الأدبي سيفيده ليكون كتابه أكثر انتشارا، ومن ثم لا يعترض المؤلف عليه. هذه المهنة ليست في بلادنا أو هي نادرة.
يختلف الأمر في المسرح والسينما حتى لو نفذ النص من الرقابة.
مشكلة المسرح أقل، لكن المسارح المصرية في العاصمة لا تقدم الكثير، وحينما تتراجع السينما والمسرح فهذا يضيف هما جديدا للمؤلف، الذي قد يرضى بتصورات الآخرين في عمله فهم أدوات تنفيذه، لكنه أيضا لا يجد فرصة له، كما لا فرصة واسعة أيضا للآخرين.
الرقابة التي ألغاها السادات كانت على الكتب وليس السينما أو المسرح أو المسلسلات التلفزيونية. هنا بعد تصريح الرقابة تكون للمخرج رؤيته، وحسب قدراته يكون نجاح النص، ويمكن جدا للسيناريست أن يعيد بناء العمل فيحذف شخصيات أو يضيف أخرى، ويمكن من البداية أن ينصاع للرقابة ويغير في النص حتى يجد فرصته في الظهور، وحتى لو مرَّ العمل السينمائي أو التلفزيوني أو المسرحي من الرقابة، فعمله لن يخرج إلى النور إلا بمنتج مقتنع بما يقدمه ولديه المال الكافي، وبممثلين يقبلون الأدوار، أي أن العمل رغم أنه أصلا من إبداع شخص واحد، إلا أن تنفيذه هو عمل جماعي، تتراجع فيه شخصية المؤلف، خاصة إذا كان جديدا، أمام نجومية الممثلين، أو قدرات المنتج الذي قد تكون له أيضا ملاحظات على العمل، وبالطبع المخرج. بالطبع لا يقصد أحد منهم تهميش مؤلف النص، فاسمه سيظل عليه، وقد يتصدر الأسماء الأخرى، لكن لم يعد العمل فرديا الآن. هناك مخرجون لا يهتمون بما يكتبه كاتب السيناريو ويحدده من حركة الكاميرا، وتكون لهم رؤية أخرى للتصوير.. أيضا بعض الممثلين يطلبون من المؤلف حذف أو إضافة مشاهد أو يقترحون عليه ذلك.
ويمكن أن يوافق الممثل على العمل، ويمكن أن يعتذر. المنتج نفسه قد يقترح عليه حذف مشاهد ستكلفه الكثير، لأنها تتم في أماكن أثرية أو مطارات، وهذا سعره كبير في مصر، خاصة إذا كانت المشاهد طويلة، فالساعة في هذه الأماكن مكلفة جدا، وعدة مشاهد تحتاج إلى ساعات. فالفيلم الذي تراه في ساعة ونصف الساعة، يتم تصويره في شهور وكذلك المسلسل. وهكذا يصبح العمل إبداعا جماعيا وضع المؤلف بذرته، لكن فروعها من عمل الآخرين. لسنوات طويلة مثلا كان مشهد القُبلات في المسلسلات ممنوعا، بسبب التوزيع في بلاد عربية رقابتها صارمة في ذلك، خاصة المملكة السعودية. وعلى سبيل الضحك كنا مرة في لقاء في باريس في التسعينيات، وأشار بهاء طاهر إلى ذلك، فقلت ساخرا إنهم الآن في مصر يسمحون بذلك بشرط أن يكون معهما «مِحْرِم»! ضج العرب الحاضرون بالضحك، واحتاج الأمر أن أشرح للفرنسيين معنى الكلمة، ليضحكوا بدورهم.
مشكلة المسرح أقل، لكن المسارح المصرية في العاصمة لا تقدم الكثير، وحينما تتراجع السينما والمسرح فهذا يضيف هما جديدا للمؤلف، الذي قد يرضى بتصورات الآخرين في عمله فهم أدوات تنفيذه، لكنه أيضا لا يجد فرصة له، كما لا فرصة واسعة أيضا للآخرين. في السينما والمسرح يبدأ العمل فرديا في شكل التأليف وينتهي جماعيا، وليس أمام المؤلف غير ذلك، حتى لو وجد من يخرج له الفيلم خارج بلده سيكون العمل جماعيا. كما أن بعض القنوات مثل نيتفلكس قد تميل إلى نصوص لا تتوفر عند الكثير من الكتاب، أيضا مشكلة مثل الرقابة لم تعد ذات أهمية، هي موجودة في كل البلاد، لكن هناك قنوات خارج البلاد رؤيتها باشتراك مالي وتحقق الكثير من المشاهدة. هذا تطور كبير في دنيا الفنون لعله يؤثر بدوره في الرقابة داخل البلاد، فتقل أو تنعدم، لكن في كل الأحوال يظل العمل جماعيا. فليحمد كتاب القصة والشعر والفنانون التشكيليون الله على نعمة الإبداع الفردي. وكان الله في عون كل العاملين في قطاعي المسرح والسينما، اللذين يتراجع الإنتاج فيهما في مصر بشكل كبير، حتى لو ظهر هذا العام عدد من الممثلين الذين غابوا من قبل، فيظل الإنتاج أقل من تاريخه ومكدسا في رمضان فقط.
روائي مصري
“القدس العربي”