الحياة السياسية الجديدة التي فاض بها العصر الأموي (662 – 750م) نقلت المجتمع الإسلامي من حياة التقشُّف والبداوة إلى رحب الترف والتعددية الثقافية، التي نقلت أيضا العرب من شظف البدائية إلى رغد الكوزموبوليتية والانفتاح على بيئات أخرى. ففي العصر الأموي، صارت الشام مركز الخلافة بدلا من الحجاز، لتأسيس حكم متين الأركان، تتوارثه سلالة بني أمية دون سواهم، بعيدا عن الثورات والمشاحنات التي اندلعت في شبه الجزيرة العربية بسبب الاعتراض على نزع بني أمية مقاليد الحكم واستئثارهم بالسلطة. فكثر الأعداء والمعارضون من الخوارج الراغبين في تداول الخلافة شورى حسب الكفاءة؛ والشيعة المؤمنة بأن الخلافة ينبغي أن لا تغادر آل البيت، مع وجوب وسمها بالربوبية. ويزيد على هذا، جماعة عبد الله بن الزبير الذي بايعه أهل الحجاز بالخلافة بعد مقتل علي بن أبي طالب، ودخل في حرب ضروس مع بني أمية استمرت لعشر سنوات من أجل استعادتها.
وكان أيضا نقل مركز الحكم بمنأى عن شبه الجزيرة العربية، فرصة منحت بني أميَّة القدرة على توسعة رقعة زمام الدولة الإسلامية بعيدا عن الصراعات المتلاحقة؛ فمركز الحكم الجديد سهَّل حركة الفتوحات الإسلامية، التي بلغت أوجها في ذاك العصر. وفي حقبة قصيرة، استطاع بنو أميَّة مدّ حدود الدولة الإسلامية إلى أقصى المغرب وبلاد الأندلس، بل بلغوا مشارف بلاد الروم غربا. وفي الشرق، شملت الدولة بلاد فارس وسجستان وخراسان وبلاد ما وراء النهر والسند. وانتصاراتهم المتلاحقة أمَّنت لهم أسرع حركة فتوحات عرفها التاريخ.
وبينما كان المأرب الرئيسي من الفتوحات هو بسط سلطان سياسي معه تنتشر الدعوة الإسلامية واللغة العربية، ومعها الحركة الأدبية، إلا أن ما حدث كان حركة تأثير متبادلة؛ فقد تأثر العرب بحضارات الأمم التي بسطوا سلطانهم عليها، واكتسبوا عاداتهم الاجتماعية والثقافية، فضلا عن التأثُّر بآدابهم وأنماط حياتهم الرغدة. وما سهَّل لهم الأمر كان تنامي الأموال والغنائم التي يتم اقتناصها من الفتوحات، فنبذوا حياة التقشُّف والضيق، وتفننوا في الاستمتاع برغد الحياة. وعلى هذا، تأثر الأدب بالبيئات الجديدة التي احتضنها، وجلَّ التأثير كان من بيئات الشام ومصر والعراق وخراسان والمغرب والأندلس. وعلى هذا تحوَّلت الدولة الأموية لبيئة كوزموبوليتية الفكروالأدب، وظهرت بجانب الشعر الذي اشتهر به أهل شبه الجزيرة العربية ألوان جديدة للأدب؛ مثل: الخطابة والحوار والوصايا، بالإضافة للتراجم التي استشرت؛ لرغبة العرب في الولوج لثقافات وعلوم الأمصار التي فتحوها.
وفي ذاك العصر، صارت للشعراء مكانة مائزة؛ لتبوؤهم منزلة لسان حال الشعوب والمعبِّر عن الصراعات وتفشِّي العصبيات والقوميات. ومع توالي الفتن واحتدام الصراع، تصدَّرت أشعار المفاخرة القبيلية والمناقضات والهجاء المشهد الأدبي.
ولعل شعراء المثلث الأموي، وهم: جرير والفرزدق والأخطل، كانوا من أبرز الشعراء الناقلين لرسائل الحاكم. أما الأخطل وسيرته، فهي أنموذج صريح لكوزموبوليتية فكر وعادات هذا العصر.
ووظَّف البلاط الأموي الشعراء كأداة إعلامية؛ لترسيخ شرعيتها، وكذلك لإلهاء معارضيها أو الحط من قدر المخالفين. ومن ثمَّ، انحرف الشعر عن مسار الصدق والأصالة، وعمد إلى إعلاء شأن ألوان شعر نهى عنها الإسلام، كالهجاء والمفاخرة والمدح المغإلى فيه، الذي كان يعتبره العرب في عصور الجاهلية وصدر الإسلام يحط من شأن قائله. لكن عمد الخلفاء الأمويون لجزل العطاء للمداحين، وضمَّهم؛ ليجعلوا منهم البوق الإعلامي الداعم لنشر رسائل الحاكم لأفراد الشعب. ومن ثمَّ، تحوَّل الشعراء – بالمفهوم الحديث – لمجرَّد موظفين تحت إمرة البلاط الأموي.
ولعل شعراء المثلث الأموي، وهم: جرير والفرزدق والأخطل، كانوا من أبرز الشعراء الناقلين لرسائل الحاكم. أما الأخطل وسيرته، فهي أنموذج صريح لكوزموبوليتية فكر وعادات هذا العصر. فالأخطل التغلبي (640-708م) هو غياث بن غوث بن الصلت، أبو مالك التغلبي النصراني من قبيلة تغلب العريقة، التي أبقى قسم منها على مسيحيته بعد الإسلام. وقد نشأ في دمشق التي صارت في شبابه مركزا للخلافة، وارتقى فيها إلى أن صار شاعر البلاط في عهد هشام بن عبد الملك. وقيل إنه لقِّب بالأخطل لطول أذنيه ورخاوتهما، وذكر أيضا أن لقبه إشارة لطول لسانه؛ والسبب – كما ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني» – أن جياث وسم بلقب الأخطل منذ صباه خلال زيارته لكعب بن جعبل شاعر قبيلة تغلب الأول عند أحد كبار القوم، وكان من الوقاحة أن ردَّ للمضيف ما قدِّمه له من هدايا أمام كعب، فعلَّق الأخير واصفا حمق جياث «إن غلامكم هذا لأخطل» والخطل هنا بمعنى طول الأذنين أو الحمق. وبتلك الواقعة، غلب اللقب على اسمه. لكن جياث ثأر لنفسه بهجائه لكعب بأبيات فاحشة. ويدلّ هذا على أن شخصية الأخطل القوية واعتزازه بما عنده وثقته بنفسه التي جعلته لا يهاب مقارعة من هم أعلى منه شأنا لإثبات جدارته – كانت سببا في ضمّه للبلاط الأموي، الذي أيضا تحمَّل مجونه وطيشه. لكن لا ينفي هذا كونه شاعرا فذّا بشهادة أبناء عصره واللاحقين؛ فهو الممسك بتلابيب اللغة. وكان الأخطل معجبا بأدبه، متفاخرا بمقدرته الشعرية، ولا يملّ من العناية بشعره؛ فكان ينظم القصيدة ليسقط ثلثيها عند التنقيح، فلا يظهر منها إلا الجياد.
وبلغ طيشه أن هجى الأنصار على الرغم من أنه نصراني. ونجا من قطع لسانه على أيديهم بأعجوبة بعد تدخل هشام بن عبد الملك. ومن الطريف أنه أصرّ على الإبقاء على دينه، بل صرح بعدم ميله للإسلام، ولم يعارضه الحاكم، بل جعله الناطق الرسمي للدولة الأموية. فصار أنموذجا للشاعر الملتزم بوجهة نظر الدولة؛ حيث صارت أشعاره تتخذ شكل بيانات إعلانية وإعلامية وجها للسلطة وتوجُّهاتها، في وقت كانت به الأوضاع ملتهبة؛ حيث الخلافات والمنازعات والثورات والانشقاقات والفتن التي تعصف بأرجاء الدولة. وأشعار الأخطل جاءت لتسجِّل الانتصارات وتؤرِّخ لها، ولا يخلو ذلك من مدح الأبطال وكيل الشتائم للأعداء والمعارضين. فكان الأخطل بمنأى عن التحزُّبات والصراعات، فكلُّ همه كان ما يكسبه من البلاط.
وكوزموبوليتية ذاك العصر تتجلى في مفارقة التسامح اللامتناهي مع شاعر على غير دين الدولة، يجاهر بشرب الخمر حتى في البلاط، بل ويعرِّض بدين الدولة وشعائرها، لكنه لم يتعرض لأي مضايقة تذكر من السلطة الحاكمة، فالتسامح الديني ومحاولة إقصاء العصبية والتحزُّبات القبلية، كانت منهاج الأمويين للنهوض بدولتهم وضمان ولاء الأمصار.
لقد فطن الأوائل لأهمية التسامح ودمج الأقليات في نسيج الدولة؛ لضمان القوّة والاستمرارية. وإعطاء المثقَّفين الحرية في التعبير عن آرائهم، وتلك نفسها هي مطالب جمعيات حقوق الإنسان في العصر الحديث. والمفارقة أن للأوائل السبق، لكن الإهمال جعل الغرب يسبقهم.
كاتبة مصرية
“القدس العربي”