محمد عبد الخليل ” أبو مهيار” .. سوء حظّه أنه وجد في المكان والزمان غير المناسبين في منتصف شهر تشرين الثاني من عام 1985، وهو يحمل علناً منشورات للحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي – على أنها ماعون ورق خاص بآلات الطباعة والنسخ ناقلاً إياها من حلب إلى الرقة، لحظة كانت هناك دورية مشتركة من الأمن الجنائي والشرطة، تفتّش المارّين، عندما كانت تلاحق مجموعة سطت على محلّ صاغة، وضاعت في زحمة الناس في ساحة باب الفرج بحلب.
لم يجد قوله أذناً صاغية، أنّ ما يحمله ماعون ورق وجده مرمياً على كرسي بالحديقة، أحداً ما نساه هناك، ولا يعرف ما بداخله. وعند فضّه تبيّن أن ما بداخله ورق مطبوع وليس ورقاً أبيض، ثلاثة أيام كاملة من التعذيب بالأمن الجنائي، وهو مصرّ على أنه ماعون ورق وجَدَه.
بعد مراسلات بين الأجهزة الأمنية تبيّن أنّ لا علاقة للأمن الجنائي في التعاطي مع هذا الأمر، والتعذيب الذي ناله ما هو إلا زكاة عن رؤوس أولاد عناصر الأمن الجنائي، حسب قول أحد العناصر الذين عذبوه عندما تم تسليمه للأمن السياسي.
أربعة أسابيع أخرى في الأمن السياسي، وهو تحت التعذيب، وبعد كل حفلة تعذيب يتم استجوابه، ولم تتغيّر روايته ” ماعون ورق وجدته مرمياً وأخذته” ، حتى فقد جسمه كل مقاومة. نقل إلى المسشفى، وصدر تقرير طبي بموته، وللتخلّص منه، تمّ رميه فجراً كجيفة في مزابل الليرمون، خلالها، وطيلة شهر، لم يعرف أحد عنه شيئاً، لا زوجته ولا رفاقه وأصدقاؤه، ضاع، اختطف، مات، أين اختفى؟ لا أحد يعرف ! وأثناء انصراف دورية الأمن بعد رميه لا حظ أحد العناصر حركة ما أو اختلاجة صدرت عنه، وتمّت إعادته ..
بعدها تغيّر تعامل الأمن السياسي معه، فالتعذيب لم يجدِ في بناء قضية واعتراف منه، يتباهون بها أمام معلميهم، وبدلاً من مخاطبة فرع الأمن السياسي بالرقة، حيث يسكن، علّهم يجدون معلومة عنه تفيدهم في كشف علاقته مع تنظيم الحزب الذي يحمل منشوراته، ومداهمة منزله، تغادر دورية من حلب إلى الرقة لتفتيش منزله، وهو أمر غير معهود ..
لم تجدِ مساومة زوجته بالكشف عن أية معلومة مقابل إطلاق سراحه، لكن من خلال دفتر الهواتف يتمّ سؤالها عن بعض الأسماء المدونة فيه، وينزلق لسانها بأن هؤلاء من ورّطوه، ليتمّ اعتقال ثلاثة من رفاقه، أمجد فخري، وخلف الجربوع، ومصطفى الحاج صالح .. يخرج أمجد بعد سنة بسبب المرض، ويبقى الثلاثة الآخرون في المعتقل ستّ سنوات .
هذا كان في ثمانينات القرن الماضي، ولم يكن عنف سلطة آل الأسد ضد السوريين بهذا الاتّساع، وإن حمل نفس العدوانية تجاه كل من خرج ضده أو شكّ بولائه، وكان يمكن أن يختفي أبو مهيار مثلما اختفى آلاف السوريين، بدون أن يعرف أحد مصيرهم.
تذكّرت قصة “أبو مهيار”، وأنا أشاهد فيديو يظهر آلاف السوريين من جميع المحافظات، يفترشون الأرض تحت جسر يحمل اسم الرئيس، “الرئيس الأب”، الذي قتل وغيّب عشرات الألوف منهم قبل عقود، وهم ينتظرون سيارات قادمة من سجون ومعتقلات “الرئيس الابن” ، وهي تفرغ حمولتها أمامهم، الكثير منهم يحمل صورة ابن، أب، أخ، أُخت، صديق، قريب، اختفوا من سنوات، ويعرضها أمام الخارجين من الجحيم؛ علّ أحدهم يذكر شيئاً عن صاحب الصورة.
- كاتب سوري