سعت روسيا من خلال تدخلها الاخير في سورية لتحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية لأن سورية هي التدخل العسكري الأول للرئيس الروسي خارج المجال الجغرافي للاتحاد الروسي ولكونها لم تأت تحت دعاوى اعتاد الرئيس الروسي على تكرارها بتدخلاته السابقة وهي تدخلات دفاعية لإبعاد خطر الناتو عن أراضيه أو لدعاوى أمن قومي أخرى ..إن التدخل الروسي العسكري في سورية (والذي لم يتسنى لبوتين استثماره سياسياً) هو تحويل فائض القوة الذي تخنزنه روسيا واستثمار غياب الرؤية الواضحة أو تخبط الاستراتيجية الامريكية في العالم والشرق الأوسط بشكل خاص..وانكفاء الاتحاد الاوربي عن لعب أي دور جيوسياسي عالمي واكتفائه بالرهان على القوة الاقتصادية المجردة من اي ادوات سياسية او عسكرية…وتوتر العلاقة بين جناحي الأطلسي خاصة بعهد الرئيس ترامب…إضافة الى رد الفعل الغربي الباهت على اجتياح روسيا واقتطاعها ماتريد من اراض دولة مجاورة باشراف كامل على البحر الاسود وبالتالي التمدد للبحر المتوسط والعالم.
كان الروس ينوون أن يكونوا محور لتجمع او منظومة اقليمية بين دول متناقضة بل متصارعة احيانا…على غرار منظومة شنغهاي التي تضم في عضويتها مثلا الهند إلى جانب غريميها اللدودان الصين وباكستان..ويكون الدور الروسي هو الضابط والمتحكم بتلك التوازنات داخلها…
حيث لم يأل الجهد الروسي في سورية عن بناء علاقات متينة وقوية مع كل الاطراف الاقليمية الفاعلة والمتدخلة بشكل مباشر او غير مباشر بالملف السوري.
أساس تلك الاستراتيجية الروسية هو تحالف صلب وحقيقي بين الثلاثي (روسيا وايران والنظام السوري)..له اهدافه والتي لم يحيد عنها وعلائم نجاحه هو استمرار رئيس النظام السوري بالوجود بالسلطة.
وقد تمكنت السياسة الروسية في سورية من بناء تفاهمات عميقة مع دولة الاحتلال الاسرائيلي تم فيها استثمار العلاقة الشخصية لرئيس الوزراء الاسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو مع الرئيس الروسي واستثمار وجود اكثر من مليون روسي اسرائيلي لهم ثقلهم الانتخابي ايضا بالمقابل وجود مليون روسي يهودي في روسيا منهم الكثير من النافذين والمؤثرين بقرارات الكرملين.
بحيث تمكنت روسيا من الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع طرفين متحاربين فوق الاراضي السورية وادارت تنسيقا للهجمات الاسرائيلية على المواقع والاهداف الايرانية واستثناء (على الاغلب) المواقع التابعة لميليشيا النظام السوري من الاستهداف بتلك العمليات.
لاشك ان الاحتفاظ بتلك العلاقة امر صعب بما يشبه تحديد قواعد الاشتباك للطرفين..واستمرت تلك القواعد راسخة وثابتة الى مابعد الغزو الروسي لاوكرانيا حيث بدات عوامل الضعف تعتريها.
تمكنت روسيا أيضاً من بناء علاقة جيدة (ان لم نقل متينة) مع عدو لدود وخصم تاريخي وعضو حالي بحلف الناتو..حيث تمكنت من ادارة الاختلاف معها بملفات عديدة كسورية وليبيا واذربيجان مع بيعها صفقة أسلحة هي درة انتاج الصناعات الحربية الروسية والتي اعتبر الاتفاق بشانها (بل وصولها لتركيا بالفعل) هي لمثابة قبر للعداوة التقليدية والتاريخية بين البلدين ..وخرق استراتيجي كبير على الحدود الشرقية لحلف الناتو باستمالة احد اهم اعضائه والقوة البرية الثانية بالحلف الى جانبه وأنشا محورا في سورية جمع ايضا بين متنافسين تاريخيبن هو محور أستانة الذي ضم تركيا وروسيا وإيران.
أما التحالف الروسي الايراني العميق والذي بدا ينمو ويزداد قوة بوصول الرئيس بوتين الى الكرملين حيث وجد نظام الملالي الايراني خير سند له دوليا واقليميا النظام البوتيني…بغض النظر عن ان كل التقنيات النووية الايرانية مصدرها الاساس روسي ايضا كان الدور الروسي بالمفاوضات التي أفضت الى اتفاق 2015 النووي 5+1 مع ايران ..كانت تحسب روسيا والى حد اقل الصين كاحد الداعمين للموقف الايراني بوجه المطالب الغربية.
وقد تجسد التحالف على الأرض عمليا بالحرب في سورية حيث كان التناغم والتنسيق بين البلدين قويا وكل ما تم إحرازه من تقدم عسكري على الارض لصالح النظام السوري هو بغرفة عمليات واحدة..جيشها البري الميليشيا الاسدية والايرانية وذراعها الجوي الطيران الروسي.
لقد رأت بعض دول الخليج (وأهمها المملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة) إن الدور الروسي العسكري بسورية سيخدمها بالضرورة حيث راهنت على قدرة الوجود المباشر العسكري الروسي على الحد من النفوذ الايراني واستئثاره منفردا بالنفوذ.
فقد أعربت عن رضاها عن ذلك التدخل ولم يفوت الروس الفرصة لبناء علاقات قوية مع السعودية والامارات وعمل رافعة خليجية روسية لسياساتهم بالمنطقة تجلت بضم روسيا الى منظمة أوبك بلس.
لقد ظهر عمق العلاقة بين موسكو وكلا من الرياض وأبو ظبي بالمواقف الخليجية من الغزو الروسي لاوكرانيا والامتناع عن ادانته واخذ موقف الحياد من الصراع وعدم الاستجابة للطلب الامريكي بزيادة كمية الضخ اليومي للبترول بغرض كبح أسعاره.
وكانت السياسة الروسية تعمل بقوة بأفريقية لخلق حامل أفريقي للدور الروسي الاستراتيجي بالعالم، من خلال تحسين العلاقة مع مصر والاتفاق على صفقات عسكرية ومؤازرة اللواء المتقاعد حفتر (رجل مصر والخليج بليبيا)..والاتفاق مع الحكومة السودانية لانشاء قاعدة عسكرية في بور سودان على البحر الاحمر..إلى جانب التغلغل بوسط افريقيا باستخدام ميليشيا فاغنر كراس حربة ودخول رجال الاعمال الروس باستثمارات بدول متعددة من القارة.
وقد تمكن الروس من طرد الفرنسيبن من دولتين مهمتين لها هما مالي وافريقيا الوسطى..ودخول روسيا كلاعب منافس للعدوين التقليديبن المتنافسين بالقارة وهما الصين والولايات المتحدة الامريكية.
كان الهدف الروسي كسر القطبية الأمريكية الأحادية بالعالم، وعدم الانضمام كذراع عسكري للتنين الصيني الاقتصادي بسعيه لمنافسة القطبية الاحادية الامريكية عبر مبادرة الحزام والطريق.
وبتنا نعلم الآن أن الاهداف الروسية في الشرق الأوسط وأفريقيا يتم التحضير لها بالتوازي مع الاهداف الروسية بأوربا والتي كان من اهداف الغزو الروسي لاوكرانيا خلخلة العلاقات الاوربية بين الدول الاعضاء اضافة لزرع الشقاق بين الولايات المتحدة وأوروبا، وشق أوروبا إلى ثلاثة أقسام قسم مهادن للروس وأهمهم المانيا عبر انبوب نورد ستريم 2..واعتماد كل اقتصادها على الطاقة الروسية…وقسم محايد يناى بنفسه عن اتون الصراع وقسم معادي للمخطط الروسي يتجسد ببريطانية وفرنسا ومن خلفهم الولايات المتحدة الامريكية.
كل الاستراتيجية الروسية العالمية كانت مبنية على دعامتين رئيسييتين، سورية كقلب للعالم واشرفها على البحار الثلاثة البحر الاحمر والبحر المتوسط .
والخليج العربي(جيوسياسياً نقصد بسورية ليست سورية سايكس بيكو وإنما سورية الطبيعية من قبرص لغزة لعمان للبصرة)..كتموضع استراتيجي بين القارات الثلاثة ومركز عبور خطوط الطاقة الى أوروبا.
وأوكرانيا التي بدونها لاتغدو روسيا امبراطورية بل دولة اقليمية كبرى، وكان واضحاً الترابط الوثيق بين سورية وأكرانيا بالاستراتيجية الروسية وسقوط أحد الموقعين سيؤدي بالضرورة الى سقوط الاخر وبالتالي كسر ساقي القطبية الروسية التي ارادها بوتين.. وهذا ما يحصل الآن.
“نداء بوست”