من واجبات المرء تحرّي الحق ما استطاع إليه سبيلا. أخلاقيا، بتجشّم عناء استبانة الحق من الباطل والعدل من الظلم. ومعرفيا، بتجشّم عناء استبانة الصواب من الخطأ والحقيقة من الخرافة أو الشائعة أو الأكذوبة أو الفكرة الجاهزة، أي التثبت من صحة الوقائع ودقة المعلومات. وأفضل المواقف هو ما انبنى على التزام مبدأ الحق بكلا المعنيين الأخلاقي (حقا أو حقوقا) والمعرفي (حقيقة أو حقائق). أما إذا حصل، بسبب من غلبة الخوف أو الطمع أو الأهواء، أن أخفق المرء أو عجز عن الالتزام المبدئي بالحق بمعناه الأخلاقي، فلا عذر له أيا كانت الحال في التنكر للحق بمعناه المعرفي.
أي أنه إذا كان التنكر للمبادىء الأخلاقية (مثلما يحصل عادة في المجتمعات والمؤسسات التي يحكمها الخوف بسبب استبداد السلطة السياسية والإدارية) سلوكا إنسانيا شائعا قد يجوز التماس الأعذار له في الحالات التي تنطوي على خطر التهلكة بقطع الأعناق أو قطع الأرزاق، فإن التنكر للحقائق المعرفية (بإنكار الوقائع أو التعامي عنها) أمر لا تبرير له ولا تفسير.
وقد كانت الحرب العالمية الثانية من أبرز الأمثلة التاريخية على صعوبة تبيّن الحق من الباطل والحقيقة من الأكذوبة، حيث أن الأمر التبس على كثير من العرب فمالوا إلى التعاطف مع قوات المحور. في تلك الحالة التاريخية المربكة، بادر الزعيم الحبيب بورقيبة، وقد كان آنذاك سجينا مع الهادي نويرة في حصن سان نيكولا في مرسيليا، إلى تحذير الحبيب ثامر وبقية قادة الحزب الحر الدستوري في تونس من مغبة أن يرتكب الحزب والشعب خطأ الانحياز إلى قوات المحور.
قال له في رسالة بتاريخ 8 أغسطس 1942 ما معناه إني أتفهم مشاعر شعبنا المقهور الذي يتخيل أن عدو عدوي هو صديقي وأن ألمانيا النازية ستمنحه الحرية التي حرمه منها الاستعمار الفرنسي. لكن هذا موقف خاطئ وخطير.
أولا، لأن مبادئ حركتنا الوطنية مستلهمة من مبادئ الديمقراطيات ولأننا نكافح الاستعمار باسم القيم الحضارية التي يزعم أنه أتى لنشرها عندنا. وثانيا، وهذا هو الأهم، لأن قوات المحور لن ننتصر في هذه الحرب. وأضاف شارحا: «الحقيقة التي تخطف الأبصار هي التالية: بين العملاق الروسي الذي لم يتم القضاء عليه العام الماضي، والذي بدأ يستعيد زمام الهجوم، والعملاق الأمريكي أو الأنغلوساكسوني الذي يتحكم في البحار والذي يمتلك مقدرات صناعية لا نهاية لها، سوف تسحق ألمانيا بين فكي كماشة لا تقاوم. لم يعد ذلك سوى مسألة وقت.
إن العرب الذين يرفعون الأعلام الروسية وصور بوتين وبشار، مثلما حدث أخيرا في تونس، إذا عجزوا عن الانحياز للحق (أي للشعب الأوكراني ضد أسوأ الغزاة، وللشعب السوري ضد أسفه الطغاة) فلا عذر لهم إطلاقا في العجز عن إدراك الحقيقة الكبرى: أن روسيا لا قدرة لها على مواجهة قوات الناتو
ولهذا فإن واجبنا وواجبكم وواجب كل من له قدر من التأثير في الجماهير هو أن نتصرف الآن بما يضمن أن الشعب التونسي (..) لن يجد نفسه بعد نهاية الحرب مصطفّا في معسكر المنهزمين، أي متورطا مع الألمان والطليان».
وقياسا على هذا، فإن العرب الذين يرفعون الأعلام الروسية وصور بوتين وبشار، مثلما حدث أخيرا في تونس، إذا عجزوا عن الانحياز للحق (أي للشعب الأوكراني ضد أسوأ الغزاة، وللشعب السوري ضد أسفه الطغاة) فلا عذر لهم إطلاقا في العجز عن إدراك الحقيقة الكبرى: أن روسيا لا قدرة لها على مواجهة قوات الناتو. وإذا عجزوا عن ذلك أيضا، فيكفيهم الانتباه للحقيقة التفصيلية التي شهد بها شاهد من أهلها: يكفيهم الانتباه لتصريحات عقيد سلاح الجو الروسي المتقاعد ميخائيل خوداريونوك للتلفزيون الرسمي. إذ بينما ينخرط الإعلام الروسي في تقديم صورة وردية عن «العملية الخاصة» في أوكرانيا، وبينما يواظب بعض مذيعي التلفزيون الروسي على تهديد الغرب بهجمات نووية (106 ثوان لضرب برلين، 202 ثانية لضرب لندن، الخ.) وبمحو بريطانيا من الخريطة، يأتي هذا العسكري المحنّك ليعلن أن القوات الروسية لا تستطيع النصر في أوكرانيا. لماذا؟ لأن سلاحها العتيق لا يفي بالحاجة إزاء أسلحة الجيش الأوكراني المتطورة: «ليس من الصواب إرسال جنود مزودين بأسلحة الأمس لخوض حرب من حروب القرن الحادي والعشرين ضد جنود مزودين بأسلحة الناتو ذات الطراز العالمي. صحيح أن علينا تعويض الخسائر في الرجال والسلاح والعتاد، لكن لا بد أن يتم هذا بواسطة منشآت صناعية قادرة على إنتاج أحدث أنواع السلاح والعتاد وأكثرها تقدما. ذلك أن التعبئة (تجنيد مزيد من الشباب) ليست كفيلة بحل هذه المشكلات». ويشرح خوداريونوك أن الوقت ليس في صالح روسيا: «لنتخيل أننا قرعنا الطبول وأطلقنا النفير وأعلنّا التعبئة العامة – فمتى سيكون أول سرب من أسراب الطائرات المقاتلة جاهزا؟ لن يكون ذلك قبل بداية العام المقبل. ذلك أننا نفتقر إلى ما يكفي من قوات الاحتياط والطيارين والطائرات (..) ولا نمتلك أسلحة متطورة في ترسانتنا».
هذه إذن فرصة ذهبية أمام العرب الهائمين ببوتين وبشار غراما لبدء الاعتراف بالوقائع تكفيرا عن العجز عن الانحياز للمبادئ. لكنها فرصة لن تغتنم. ذلك أن من يسهل عليه جحود الحق فلن يصعب عليه نكران الحقيقة.
كاتب تونسي
“القدس العربي”