تتباين مواقف وقناعات النواب الذين وصلوا إلى البرلمان اللبناني عقب الانتخابات الأخيرة، كممثلين لانتفاضة تشرين، حول مسائل شتى، من أولوية مواجهة سلاح الميليشيا، مروراً بمعالجة المسألة الاقتصادية، وصولاً إلى علاقات البلد الخارجية وتحديداً قضية الحياد.
غير أن هؤلاء، يشتركون في تبني خطاب لا طائفي، والأخير لا يعني تجاوز البيئات الطائفية، بوصفها بنى تنتج علاقات تواصلٍ داخلها وتماثلات حيال الذات وتصورات تجاه الآخر، فمعظم نواب الانتفاضة، انتُخبوا من قبل جمهور طائفي، انطلاقا من الأمر الواقع المفروض من الأحزاب التقليدية، أي قانون الانتخاب.
وعليه، فإن لغتهم اللاطائفية لا تترفع عن البيئة التي أوصلتهم إلى الندوة التشريعية، بل إن هذه اللغة تركز على تجنب الشحن والتعبئة، وشد العصب وجعل مصلحة الطائفة حالة كلية تُختصر بكرامة الزعيم ونفوذه داخل مؤسسات الدولة. يمكن لمرشح مدني سني في بيروت، أو ماروني في زغرتا، أو درزي في الجبل، أن يقنع ناخبيه بأن مصلحة الطائفة كبنية اجتماعية، يمكن أن تترجم من خارج النظام المعمول فيه في لبنان منذ سنوات طويلة، أي عبر فعل مدني قوامه الصالح العالم المحلي (مناطق وقرى وبلدات)، وليس فعلا عصبيا، يشحن الجمهور، لضمان السلطة، مدعّما بشبكة زبائنية تربط الناس بالزعيم. الفعلان، يحدثان داخل الطوائف، واحد يسخّر الطائفة لمصالح الزعيم ونفوذه، وآخر يفتحها على ممكنات مدنية ومفاهيم حديثة. الفعل الأخير، ليس محصناً من النكسات، لاسيما وأنه ضعيف نظريا، إذا كيف يستقيم فعل مدني داخل الطوائف، وحداثة سياسية في ظل عصبيات وروابط أهلية، عدا ذلك ثمة تحدٍ عملي، يتعلق بصياغة الزعماء السياسيين للطوائف وتسييسها لضمان ديمومتهم، خلال العقود الماضية. فيما يتعلق بالجانب النظري أي تركيب، مفاهيم حديثة على بنى تقليدية، فنحن حيال تجربة لا بد أن ننتظر نتائجها، خصوصاً أن الأمر لا يتعلق، بالنسبة للنواب المدنيين، بتغير بنى الطوائف، وردها إلى “أصلها” كطبقات، كما روّج اليساريون لعقود. هذه الأفكار، لم تثبت فشلها فقط، بل زادت من صلابة الطوائف وقوتها، ومع الوقت تحول هدف إلغاء الطائفية السياسية إلى شعار طائفي، توجس منه المسيحيون خشية على المناصب، وردوا عليه، بشعار العلمانية الشاملة. من هنا، فإن انتظار نتائج تجربة مشكوك نظريا بفعاليتها، سيكون أفضل بكل الأحوال، من الفهم الكلاسيكي اليساري أو الاستخدام السياسي، لمواجهة الطائفية. أما بخصوص التحدي العملي، فإن التحولات الأخيرة التي شهدها البلد من انتفاضة وتفجير للمرفأ وانهيار اقتصادي، فهذه كلها، قد تقوي العلاقات السلطوية داخل الطوائف، وقد تضعفها أيضاً، فالناس سترتد إلى الطوائف وزعاماتها والشبكات الزبائنية فيها، كلما تدهورت أوضاعها الاقتصادية، لكن في الوقت نفسه، الموظف الذي عيّنه الزعيم في موقع داخل إدارة رسمية، حالياً راتبه بسبب تصاعد سعر الدولار، لا يساوي شيئاً. ما يعني أن الشبكات الزبائنية داخل الطوائف، سيتراجع تأثيرها، ما سيفتح تلقائياً ثغرة للمدنيين لإقناع الناس، بتحصيل حقوقهم بشكل مختلف عن الطريقة التسولية السابقة.
معظم نواب الانتفاضة، انتُخبوا من قبل جمهور طائفي، انطلاقا من الأمر الواقع المفروض من الأحزاب التقليدية، أي قانون الانتخاب
الهدف، باختصار، تخفيف سقف الطموحات حيال الطوائف، فبدل إلغائها وإنكارها والتحايل على وجودها بتحليلات ماركسية فوق مجتمعية، يمكن العمل على تحريرها من العلاقات السلطوية التي يستفيد منها الزعيم، وكسر شبكات الزبائنية بالاستفادة من الأوضاع الراهنة، وهو تحديداً ما يسعى إليه النواب المدنيون. مع العلم أن البيئة الشيعية لا تندرج في هذه المساعي، بسبب تحكم “حزب الله” بطبيعة العلاقات داخلها، فحتى إن كان الحزب يستخدم أدوات الزعماء والأحزاب الأخرى، من زبائنية وشحن وتعبئة، لكن كل أداة من هذه الأدوات، لها سماتها الخاصة عنده، إذ إن الزبائنية مرتبطة باقتصاد ظل، والشحن والتبعية مرتبطان بالمقدس وليس فقط العصبية، ما يعني أن تسييس الطائفية لدى الحزب مختلف عن بقية البيئات في لبنان، إذ إن الغرض عنده ليس استمرار نفوذ الزعيم، الأخير نفسه بشكل ما يملك من كاريزما وتأثير أداة، في خدمة السلاح، المرتبط بأجندة إيرانية.
*كاتب سوري
“القدس العربي”