اقترح الكاتب الإيطاليّ ألبرتو مورافيا في إحدى مقالاته تحريم الحرب في العصر الحديث، واعتبارها (تابو) من أجل أن ينتفي الشّقاء من العالم، ومن أجل أن يعمّ السلم في جميع ربوع الأرض. لكن الذي جرى خلاف أمنية مورافيا تماما، وهو ما يمكن أن ندعوه بعولمة الحرب، أي أن القتال صار موضوعا عالميّا، لا يمكن لأيّ نظام عدم الإيمان به، وإلا يكون مكانه خارج الكوكب.
«مرة، قالت لي فتاةٌ فلسطينية، ونحن بين صيادي بيروت:
مِن هناك تأتي طائرات العدوّ. كانت سبّابتها
تمسح العالم كلّه».
الشّعر لسعدي يوسف، وهذه ميزة الحرب في العقود الأخيرة، فهي تجري على أرض واحدة، أو على أرضين متجاورتين، في إحدى دول العالم الثالث على الأغلب، والعالم كلّه يشترك فيها، في تمويلها وفي إلقاء الزيت على نارها كلما هفتت. جاء عن اليونيسيف أنّ الأشهر التسعة التي يعيشها ملايين الأطفال في العالم الثالث داخل بطون أمهاتهم هي الأشهر الوحيدة التي يمضونها بسلام في حياتهم. وأحسن من وصف الحرب هو شكسبير: «الحرب ورم السلم». لكن التعريف الواقعي لها دوّنه الضّابط البروسي كارل فون كلاوزفيتش قبل 200 سنة من الآن: «الحرب هي السياسة بوسائل أخرى». و»السياسة هي الرحم الذي تتطور وتخرج منه الحرب» كما أن «الحرب في حدّ ذاتها لا تعلق العلاقات السياسية ولا تصيّرها إلى شيء مختلف تماما. العلاقات السياسية تستمرّ بغضّ النظر عن الوسائل التي نستخدمها». وهذا كلّه قريب جدا لرؤية شكسبير. الحرب والسياسة متشابكان إذن، فالحرب هي نوع من السياسة، والعكس صحيح أيضا، وتحدّت هذه النظرية آراء القائلين بأن الحرب «حدث يبدأ وينتهي» بل هي لا تبدأ في تاريخ معيّن، ولا تنتهي في زمن معلوم، ونهاية حرب ما هي بداية حرب جديدة. كم كانوا واهمين إذن أولئك الذين أطلقوا على الحرب العالمية الأولى اسم «حرب إنهاء الحروب»؟! وقد عبّر قادة السياسة والفكر عن أفكار مشابهة بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي، وكان هناك من يدعو إلى أن تتبنى الأمم المتحدة لنفسها مهامّ جديدةً، واعترض رئيس إحدى الجامعات الأمريكية على تعيين أستاذ للدراسات الأمنية، لأن الحاجة إلى ذلك لم تعد قائمة، بل إننا سمعنا من يهتف في ذلك الوقت: «هللويا! لم نعد ندرس الحرب، فلم تعد هناك حرب!».
قسّم بعض الباحثين الأمريكيين في سنوات الحرب الباردة، العالم إلى دارين، أحدهما أطلقوا عليه اسم دار السلام! يضمّ العالم الحرّ زائدا اليابان، ويمثّل 15% من كوكبنا، والآخر هو دار الحرب، ويشمل بقية العالم.
ظهر على سطح الأزمة الأوكرانية الأخيرة اسم مدينة (خاركيف) وهذه لم تبلغنا في السابق عن طريق السياسة أو السياحة، وإنما عن طريق الأدب. أكثر قصص تشيخوف يرد فيها اسم هذه البلدة، فالبطل في القصة إما يكون ذاهبا إليها، أو عائدا في طريقه إلى بيته، وكذلك الحال بالنسبة إلى أدب تولستوي، تقلّب الصّفحات في القصص والرّوايات، ويأتي ذِكر (خاركيف) حتما، كما أن لديه كتابا عنوانه «قصص سيباستيبول» وهذه إحدى مدن شبه جزيرة القرم التي ضمّتها روسيا إلى حدودها في الماضي القريب. ويتذكّر جميعنا عبارة دوستويفسكي (تورجنيف؟) الشّهيرة: (كلّنا خرجنا من معطف غوغول) والمقصود هو رواية «المعطف» لغوغول، وإذا علمنا أنه كان أوكرانيّ الأصل، وكتب باللغة الروسية، فهذا دليل آخر على أن الحدود في تلك البلاد الشاسعة لم تكن في ذلك الزمان مثلما هي الآن. أما الشعر الروسي، فإذا ذُكر اليوم فإن الأنظار تتجه مباشرة إلى آنّا أخماتوفا الشاعرة الأوكرانية الأصل، التترية المنبت، وقرأ سعدي يوسف اسمها برسمه العربي: (أنّا أحمد) وترجم لها قصيدة عن خاتم أسود أهدته لها جدّتها التترية، تعاتبها لأنها تعمّدت، وتركت ديانة الإسلام:
«جَدّتي التتريّةُ
نادرا ما منحتني هدايا؛
بل كانت حانقةً عليّ شديدا
لأني عُمّدْتُ».
وفي أحد الأيام، تُفاجَأُ الجدّة بأن حفيدتها بلغتْ، وصارت امرأة: «لقد غفرتْ لي كلّ حماقاتي/ وأهدتني خاتمها الأسودَ/ مُعلِنةً: الخاتمُ لها/ ولسوفَ تُسعَدُ بهِ/ خيرا منّي». لم تتحقّق نبوءة الجدّة، وقضت الشاعرة عمرا مريرا في قبضة رجال ستالين، وقصّتها مع جدانوف، مفكّر ومنظّر الحزب الشيوعي الحاكم معروفة، إذ كان يصفها بأنها «نصف عاهرة، ونصف قدّيسة». في إحدى جلسات الأصدقاء فقدت الشّاعرة خاتمها، وغادرت المكان غاضبة: «حين عدتُ إلى غرفتي/ انتحبتُ مثل طيرٍ جارحٍ/ منطرحةً على الفراش». إن الشّاعرة متمسّكة بجذرها الشّرقيّ، لأنه لا شيء في الوجود يقوم مقامه. كتبت أنّا أخماتوفا قصائدها باللسان الروسي، وأمضت شيخوختها الطويلة في قراءة بوشكين، والكتابة عنه، والروس يعدّون هذا الشاعر المؤلفَ الحقيقي لقاموس اللغة الرّوسية الحديثة.
ربما كانت الصورة التي جمعت بين الرئيسين الروسي والفرنسي، بوتين وماكرون، جالسيَن متباعدَين على طرفي المائدة البيضوية، تمثّل نقطة انطلاق الحرب الكونيّة الثالثة. كانت قصة أخذ مِسحة كوفيد -19 من الرئيس الفرنسي فبْركةً سياسية لما سوف يجري في الأيام المقبلة. اختارت روسيا هذه المرّة، وبقرار رئاسيّ – ذلك أن مفردة الشعب أو البرلمان لا معنى لها في تلك البلاد – أن تبتعد عن أوروبا وأمريكا، العالم الذي أطلق عليه تشرشل اسم العالم الحرّ. طوال سني الحرب العراقية الإيرانية، كانت الأدبيات في إيران تدعوها «الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية». السؤال الأهمّ في هذه الأيام: هل كان قرار بوتين بوداع أوروبا وأمريكا مفروضا عليه؟
في عهد يوليوس قيصر كانت روما وبسبب نفوذها الكبير، هي التي تقرّر أوقات الحرب والسلام، وفي كلّ عصر تأخذ إحدى الدول على عاتقها هذه المهمّة. يروي الطلاب العراقيون الذين درسوا في جامعات أوكرانيا قصصا عمّا جرى في هذه الديار في السنتين الأخيرتين. احتلّت فجأة شعارات النازيّة الجديدة الشوارع، وصار الأوكراني ينظر إلى الروسي كأنه غريب وأجنبي وغير مرغوب فيه. وإذا تحدّث أحد بالروسيّة لا يجيبه الآخر، سواء كان في المطعم أو في المشغل والشارع. صار المجتمع منقسما إلى قسمين متحاربَين في السرّ والعلن، وبهذا فإن الحرب الأوكرانية الروسيّة بدأت فعليا قبل عامين من الآن. لكن ما الذي يخشاه بوتين، وما هو مطمح الرئيس الأمريكي بايدن من وراء الفتنة التي أدّت إلى الحرب، والتي قد تجرّ العالم كله وراءها؟
قسّم بعض الباحثين الأمريكيين في سنوات الحرب الباردة، العالم إلى دارين، أحدهما أطلقوا عليه اسم دار السلام! يضمّ العالم الحرّ زائدا اليابان، ويمثّل 15% من كوكبنا، والآخر هو دار الحرب، ويشمل بقية العالم. المفهوم من هذا الكلام أن الحرب يمكن أن تشتعل في أيّ بقعة من الدار الثانية – أو أنها يجب أن تشتعل- في سبيل أن يبقى العالم الحرّ في أعلى درجات سلامه، كما أن موقع دور الحرب يجب أن يبقى بعيدا عن الذين ينعمون بالسلم، كي لا يصلهم شرار نارها. ومن شروط اللّعبة الأخرى أن تبقى أبواب دار السلام مغلقة، إلا في وجه من يقلّد أهلها في الثقافة والقيم وأسلوب المعيشة، هل نفهم مما تقدّم أن الصراع الروسي الأوكراني هو صراع بين القيم في البلدين – الشرقية في روسيا، والغربية المفروضة بالقوّة على الأوكرانيين. إنها حرب فكرية فلسفية إذن، فكلا الطّرفين المتحاربين متجاوران أولا، في التاريخ والجغرافيا، ومتساويان ثانيا في درجة الغِنى، تقريبا، وليست هنالك مطامع اقتصادية تحرّك الروس أو الأوكرانيين باتجاه الآخر. الحرب قامت، وهناك من أشعل فتيلها، ولا يريد لأوارها أن يهدأ، كما أن الكلام الكثير لا ينفع في الوقت الحاضر، إنما تطمح البشرية، والسلاح النووي يلوح في سماء الكوكب، إلى تقديم الحلول.
كاتب عراقي
“القدس العربي”