عادة ما ارتبط اسم الأنثروبولوجي الأمريكي ديل أيكلمان بالمغرب العربي، إذ تمكّن هذا الباحث خلال عقود من دراسة الإسلام اليومي في هذا البلد، ما جعل من كتبه ودراسته في هذا الجانب مرجعا مهما. لكن من يطلّع على الكتاب الأخير له «أنثروبولوجيا المجتمعات المسلمة» الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، وهو عبارة عن عدة أبحاث عمل على جمعها الأنثروبولوجي المغربي يونس الوكيلي، بترجمة مجموعة من الباحثين المغاربة، سيكتشف أنّ «أيكلمان المغربي» لن يتوقف في أعماله عند حدود مراكش وأرياف المغرب، بل سار لاحقا في شوارع مدن عربية مثل دمشق لدراسة سيرة الجيل الجديد من الإصلاحيين المسلمين. ولن تقف زيارته إلى دمشق عند التسعينيات، بل يبدو أن زياراته لها ستتكرر، ليستمع في نهاية عام 2010 لهمسات بعض الندل في أحد الفنادق، وهم يرددون عبارة «نحن اللاحقون» خلال مشاهدتهم للأحداث في القاهرة.
وقبل الخوض في سيرة أيكلمان البحثية هنا، نرى من الضروري الإشارة إلى بعض النقاط في المقدمة. أول ما يلاحظ في كتابه، أنّ أغلب الأبحاث المنشورة نُشِرت قبل الانتفاضات العربية، وحاول أيكلمان في أغلبها التركيز على جوانب تتعلق بظهور ما يدعوه بـ»الناس الجدد» في الإسلام. وهم الذين ولدوا، إن صح التعبير، في ظل موجة من انتشار التعليم ووسائل التواصل الجديدة، ما أتاح لهم نقل النقاش حول الإسلام من أسوار المؤسسات التقليدية، الجوامع، إلى الفضاء العام، وهو ما ساهم في»دمقرطة الإسلام» وتعميمه من خلال تأويل كلام الله مباشرة دون وساطة. وعلى الرغم من أنّ ايكلمان بقي يكتب عما عاشته المنطقة لاحقا، وبالأخص عن تصاعد دور القبائل بعيد عام 2011 وواقع بلدان الخليج العربي، لكن ما دعانا إلى اعتبار الانتفاضات العربية نقطة لتحديد أعماله المنشورة في هذا الكتاب، أنّ الرؤية التي أبداها أيكلمان حيال دور هؤلاء الإصلاحيين الذي سبق هذا الحدث، يبدو متفائلا، إذا ما قارناه بما شهدته المنطقة في العقد الأخير. فخلافا لما توقعه أيكلمان، كان العنف الذي تشهده المنطقة، يقذف بالإسلام اليومي إلى أسئلة مختلفة وجديدة، ويظهر نوعا آخر من المسلمين ممن ولدوا في الشروط ذاتها التي تحدّث عنها (تعليم ووسائط تواصل) لكنهم كان يسيرون بالإسلام نحو رؤية أصولية وصفها أوليفيه روا بـ»السلفية الجديدة». وهي رؤية، وإن بدت أنها تقطع مع طقوس العلماء التقليديين في فهم النص، لكنها في المقابل تساهم في تسلّف الحياة اليومية، على صعيد الطعام واللباس والصدقات والطب (لاحظ مثلا كتاب يونس الوكيلي حول الطب الشرعي).
وهنا لا بد من تسجيل ملاحظة في المقابل، تتمثّل في أنه وإن كانت استنتاجات روا أكثر تحقّقا مما وصل إليه أيكلمان، على صعيد دراسة مسارات القادة المسلمين الجدد (القادمين من خارج مؤسسة الجامع)، مع ذلك يبدو أيكلمان متنبها لبعض المطبات التفسيرية التي وقع فيها روا، إذ يرى الأخير مثلا أنّ فكرة الدولة الإسلامية والعودة للماضي الذهبي ليست سوى تعبير عن إفلاس المسلمين المعاصرين، في حين يلاحظ أيكلمان أنّ صورنة تقليد العصر الذهبي تحمل أيضا رؤية إيجابية، ذلك أنها «تشتغل في الوقت ذاته كأداة لإدانة شذوذ المجتمعات الإسلامية الحديثة وكخطة عمل». ولذلك فهو يقترب من رؤية باحثين آخرين من أمثال صبا محمود وميريام كوك، ممن وجدوا أنه ينبغي عدم تفسير التقليد كشيء سلبي خالص، إذ يمكن للخطابات التقليدية والشبكات الدينية في الواقع أن تسهّل سيرورة التنمية، وأحيانا لا تكون التحولات الاجتماعية ممكنة إلا نظرا لأنها مصاغة في إطار تقليدي.
طفولة بلا تلفزيون
ربما من التفاصيل الممتعة في كتاب أيكلمان، أننا سنتمكن ونحن نقرأ أبحاثه في عدد من المدن العربية، من تكوين صورة أوسع عن رحلة هذا العالم الأنثروبولوجي وسيرته الشخصية، وبذلك نقوم بما عرف عنه في كتبه ودراساته، عندما أعاد الاعتبار للسيرة الذاتية للفاعلين المسلمين، لفهم تحولات الإسلام اليومي في القرن العشرين. سيخبرنا أيكلمان في إحدى مقالاته عن طفولته وعن ظروف منزلهم في الخمسينيات، إذ كانت والدته تعمل ممرضة ووالده عاملا، ولذلك لم يتمكنا من جلب تلفزيون للمنزل، لكنهما في المقابل حاولا أن يعوّضا عن غياب الصور في حياة ابنهما من خلال قراءة الكتب له بشكل مستمر. وهذا ما سيمكنه لاحقا من النجاح في دراسته ومن مساعدة أصدقاء الحي، الذي لم يكن يخلو من بعض العنف، في إشارة ربما لفقره. وفي الفترة الثانوية، سيقرر التخصص في الأنثروبولوجيا في جامعة دارتموث، وخلال هذه الفترة سيتعرف، كما يقول، على شاب سوداني متدين، مما سيفتح أمامه اسئلة حول الإسلام والشرق الأوسط. وفي عام 1968، قرر أيكلمان زيارة مدينة النجف العراقية لإعداد دراسات حول الحلقات الدينية في الحوزات، وهو موضوع لم يكن قد حظي بعد باهتمام الباحثين الأمريكيين، مقارنة بفترة ما بعد الثورة الإسلامية في إيران 1979. بيد أنّ العراق آنذاك كان يعيش ما سمي بـ»ثورة البعثيين» الذين لم يرق لهم اهتمام أيكلمان، ولذلك لم يسمحوا له بالوصول للمدينة، ولذلك قرر على أثرها تبديل خطته البحثية والذهاب إلى المغرب. وهناك سيعرف من خلال كتابين كان لهما أثر كبير على صعيد دراسات المغرب العربي، الأول بعنوان «الإسلام المغربي» حاول من خلاله دراسة الإسلام الشعبي في مدينة أبي الجعد المغربية، ودرس في كتابه الثاني «المعرفة والسلطة في المغرب» 1985 حياة وسيرة مثقف ديني في المجتمع القروي، ونظر للسيرة بوصفها وثيقة اجتماعية.
وقد فسّر أيكلمان هذه المبارزة بوصفها تعكس الصراع الجاري بين الفقهاء التقليديين والمثقفين المسلمين الجدد، وربما ما يحسب لرحلته هنا في حياة محمد شحرور أنها استطاعت وضع نتاج الرجل ضمن سياق يتعلق بالتطورات التي كانت تعيشها المنطقة على صعيدي التعليم الجماهيري ووسائط جديدة للأفكار (أشرطة الفيديو والكاسيتات).
مبارزات خطب الأعراس في دمشق
لاحقا سيبقى موضوع الفاعلين الدينيين الجدد يشغل معظم اهتمامات أيكلمان. وسيلاحظ في هذا السياق أنّ هناك «الناس الجدد» الذين بزغوا واستفادوا من النمو الهائل في التعليم الجماهيري الحديث، وأنّ هؤلاء لعبوا دورا في تفتيت السلطة الدينية التقليدية من خلال المساهمة في إعادة تأويل الإسلام، ما ساهم في تزايد أعداد الأشخاص المشاركين في خلق مجال عمومي ديني ـ مدني، وهو واقع سيتعزز لاحقا مع تطور وسائل الإعلام الجديدة. وسيظهر هذا الواقع لدى أيكلمان بشكل أكثر وضوحا خلال زيارته لدمشق، وهي زيارة نادرا ما جرى الحديث عنها. وفي هذه الزيارة صيف 1997 كان قد قرر السير وراء سيرة وحياة المثقف السوري محمد شحرور، الذي أثارت أفكاره حول قراءة النص الديني نقاشا وإقبالا واسعين. وهنا سيقرر حضور «مبارزات خطب الأعراس» وفق تعبيره في المدينة، إذ استمع يومها حوالي 600 شخص في عرس ابنة شحرور إلى كلمة جودت سعيد حول علاقة العقيدة الإسلامية بالأحداث الجارية. وبعد ذلك بيومين سيستمع في عرس آخر لكلمة ألقاها الشيخ سعيد رمضان البوطي، ردّ فيها على كلمة العرس السابق وأضاف: «كما أن المرء يقصد الطبيب عند المرض، والمهندس لبناء منزل، فإنه يتعين عليه في أمور الدين أن يقصد فقط المختصين ممن تلقوا تكوينا رسميا في العلوم الشرعية». وقد فسّر أيكلمان هذه المبارزة بوصفها تعكس الصراع الجاري بين الفقهاء التقليديين والمثقفين المسلمين الجدد، وربما ما يحسب لرحلته هنا في حياة محمد شحرور أنها استطاعت وضع نتاج الرجل ضمن سياق يتعلق بالتطورات التي كانت تعيشها المنطقة على صعيدي التعليم الجماهيري ووسائط جديدة للأفكار (أشرطة الفيديو والكاسيتات). وسيدون في نهاية هذه الرحلة «أنّ الإصلاح الإسلامي ماض قدما، لكنه يواجه معارضة أشد مما كانت تبدو عليه منذ عقد من الزمن. وفي هذا الصدد، على الأقل، يمكن القول: إن ثمة تشابها موازيا للإصلاح الديني الذي عرفته أوروبا. وهذا الأمر ليس مجرد نقطة ما زمنية، وإنما هو سيرورة». وبعد هذه الزيارة بسنوات، سيأتي جيل آخر من الأنثروبولوجيين الأوروبيين إلى دمشق، ليقطع أو يعدّل بعض الشيء من رؤية أيكلمان. إذ سيرى هذا الجيل (توماس بيريه، ليف ستينبرغ)، وقبلهم الباحثة الألمانية أنابليه بوتشر، أنّ التطور الأهم في سياق الإسلام اليومي السوري، لم يكن يجري في أوساط المثقفين الجدد، بل داخل المؤسسات الدينية التقليدية، لتأتي الحرب لاحقا وتكشف في سوريا أيضا عن لاعبين دينيين جدد (السلفية)، لم يكونوا فقط مجرد إفراز للحرب، بل لهم وجود سابق بعض الشيء، وهو ما لم يولِ له أيكلمان أهمية تذكر في دراساته.
لكن بعيدا عن هذه الجزئية، فإنّ ما يحسب له أنه تمكّن من كتابة واحدة من أمتع السرديات الإثنوغرافية حول تطور التعليم الديني، وظهور الطبقة الوسطى الدينية في القرن العشرين، كما يحسب للوكيلي هنا (محرر الكتاب) أنه تمكن من خلال اختياراته للأبحاث من تعريفنا بهذه الصورة الواسعة من مشروع أيكلمان، وليته لا يقف عند قصة وسيرة صديقه، بل أن يستمر في جمعه لتراث الأنثروبولوجيين الغربيين في المغرب العربي.
كاتب سوري
“القدس العربي”