يقول مصطفى فواز، إن الجيش التركي استأجر جزءاً من أرضه مزروعة بأشجار الفستق في بلدة مورك في ريف حماة، بوساطة “فيلق الشام” (أحد فصائل المعارضة المحلية يقاتل في صفوف الجيش الوطني السوري).
استأجرت القوات التركية نحو 28 دونماً فقط (الدونم 1000 متر مربع) و600 متر مربع من أرض مصطفى، لكنه فوجئ في العام التالي عندما رأى الجيش التركي يصنع تلالاً ترابية تتجاوز طول المساحة المستأجرة دون علمه وتجرف مساحة تزيد عن 40 دونماً وتقتلع عدداً كبيراً من أشجار الفستق الحلبي.
وأضاف: “كل شيء واضح وموثق بالصور، فالمنطقة الجنوبية من أرضي كانت مزروعة بأشجار صغيرة، قمت بتصويرها قبل استئجار الأرض واقتلعت 76 شجرة لتحديد النقطة بحسب الاتفاق، ومع ذلك، تم اقتلاع عدد كبير من الأشجار دون موافقتي”.
وقال مصطفى: “لقد وعدوني، وفقاً للعقد، بأنهم سيعوضونني عن أي ضرر يلحقونه بالأرض وأنهم سيعيدون كل شيء كما كان، لكن أرضي أصبحت صخرية”.
يبلغ ارتفاع التلال الترابية في أرض مصطفى 5 أو 6 أمتار، إضافة إلى جدران خرسانية مشيدة عالية تصعب إزالتها، وتم تجريف معظم الأراضي حتى أصبحت الصخور مرئية، ما يعني أنها تحتاج مبالغ كبيرة لإصلاحها.
ترك مصطفى قريته ولجأ إلى بلدة أخرى في إدلب، مورك، حيث بنى منزلاً صغيراً داخل مخيم للنازحين في المنطقة؛ ويعمل حارساً ليلياً في أحد المرافق في المنطقة. أما حزنه على أرضه فلا ينتهي، بانتظار العدالة، التي يأمل أن تتحقق ويستعيد أرضه بعدما سطا عليها النظام السوري بعد اتفاق أستانا.
وكانت تركيا أقامت 122 نقطة عسكرية، بحسب “مركز جسور للدراسات”؛ وفي حماة حيث تقع أرض مصطفى، توجد نقطة مراقبة واحدة، تم بناؤها عام 2018، لكنها الآن تحت سيطرة الجيش السوري.
خلال متابعتنا التحقيق، لاحظنا اختلافاً في شكل التخريب الذي مورس في الأراضي الزراعية التي كانت تتمركز فيها نقاط المراقبة التركية، وهذا يدل على عدم وجود أسلوب نهج واحد يعتمده الجيش، بل إن كل مجموعة عسكرية تنجز العمل بحسب فهمها لكيفية تنفيذ مهمتها.
ووقعت معظم العمليات العسكرية على جبهات القتال في الأراضي الزراعية أو حولها في محافظات إدلب والرقة وحماة وحلب. علاوة على ذلك؛ صادر أطراف النزاع الأراضي الزراعية في هذه المناطق.
الأرض المحروقة
ووثقت “هيومن رايتس ووتش” استخدام طائرات النظام السوري والطائرات الحربية قنابل حارقة خلال غارات متعددة خلال السنوات الماضية.
يحظر استخدام الأسلحة الحارقة، بما في ذلك النابالم والفوسفور الأبيض وأسلحة أخرى؛ ضد المدنيين بموجب بروتوكول الأمم المتحدة الثالث بشأن أسلحة تقليدية معينة، والذي وقعته روسيا، لكن النظام السوري غير موقع عليه.
وتغطي الاتفاقية الألغام الأرضية والقنابل المتفجرة والأجهزة الحارقة وأسلحة الليزر المسببة للعمى وإزالة المتفجرات من مخلفات الحرب.
ولكن روسيا والنظام السوري أيضاً لم يوقعا على اتفاقية الذخائر العنقودية.
وإذ يحظر البروتوكول استخدام الأسلحة ضد المدنيين، إلا أنه لا يؤكد آثارها السامة على التربة الزراعية أو الخسائر البيئية والبشرية التي تنجم عن استخدامها.
يقول أيوغان داربيشاير، وهو خبير بيئي متخصص بالصراع والبيئة: “ليس التأثير الأولي للقنبلة هو الذي يسبب حرارة التربة فقط، بل هناك أيضاً أسلحة كالتي تنفجر في الهواء أو الألغام أو الكثير من الذخائر الأخرى يمكن أن تلوث التربة سواء بيولوجياً أو كيميائياً”، مشيراً إلى الضرر اللاحق بالناس جراء “استخدام هذه الأسلحة وتلوث الموارد المائية. إضافة إلى أن الانفجار الناتج عن الأسلحة أو الهجمات الصاروخية يتسبب في تلوث الهواء والأرض، وتلوث المزروعات تالياً”.
في هذا السياق، أخبرنا سيف كيف احترقت أرضه بالكامل، وأوضح أنه “مع بداية موسم حصاد القمح في نهاية شهر أيار/ مايو 2021، تحديداً في سهل الغاب (القرى التابعة لبلدة الزيارة)؛ بدأت قوات النظام السوري بقصف الأراضي الزراعية بالمدفعية والصواريخ”، ما أدى إلى احتراق عشرات الهكتارات، حتى إنه تمكن رؤية الحرائق من الصور المتوفرة على موقع “غوغل إيرث”.
بيانات الخرائط/ غوغل
مصطفى عمر، مزارع آخر احترقت أرضه الواقعة في منطقة الهبيط جنوب إدلب في نهاية عام 2019، قال لموقع “أنبايس ذا نيوز”: “تعرضت أرضي وبعض الأراضي الأخرى في المنطقة للقصف بصواريخ وقذائف مختلفة”، وهو حدث رصدته الكاميرا.
واحترقت أشجار الزيتون في أرض مصطفى والأراضي المجاورة بالكامل، ما يعني أنه لم يعد قادراً على زراعتها، بسبب تأثر التربة في المناطق المتضررة.
واضطر مصطفى عمر إلى ترك أرضه ومنزله عندما سيطرت قوات النظام السوري على المنطقة واتجه نحو قرية شمال إدلب.
متفجرات ومخلفات ضارة
المصدر: تقرير منظمة “هالو ترست” عن التلوث بالمتفجرات
وبرغم أن الدفاع المدني (المعروف أيضاً باسم الخوذ البيض) يقدم دعماً فوريّاً في مناطق سيطرة المعارضة، ويحاول مساعدة السكان على إخماد الحرائق أو تقديم المساعدة لهم، إلا أن السكان المحليين لا يتلقون الدعم الكامل في تطهير أراضيهم من مخلفات الحرب وملوثاتها.
ولا معلومات كافية عن حجم تسمم التربة، أو كيفية إحيائها؛ ما يمنع الأهالي من زراعة أراضيهم كليّاً أو جزئيّاً، فالتربة ملوثة ويحتمل أن تحتوي أيضاً على مخلفات متفجرة.
ووصف سامي المحمد، منسق “برنامج الخوذ البيض للتعامل مع المواد الخطرة والذخائر غير المنفجرة”، عمله في مسح وتحديد مواقع الأسلحة غير المنفجرة، قائلاً: “قامت فرق المسح منذ بداية إنشائها عام 2019 حتى هذه اللحظة بزيارة أكثر من 600 قرية وتم تحديد أكثر من 600 منطقة ملوثة بالقنابل غير المنفجرة”.
وبسبب وجود قنابل عنقودية قاتلة، يعتبر تحديد مواقع الألغام وإبطالها أمراً صعباً للغاية؛ يقول سامي: “لم تتلق فرقنا تدريبات على التعامل مع الألغام وحقولها لأنها تتطلب جهوداً كبيرة، تحديداً على مستوى الحكومات”.
ويمكن أن يكون لهذه الألغام غير المنفجرة وغيرها من الأسلحة غير المكتشفة تأثير كبير على التلوث، فيقول داربيشاير: “يمكن أن تلوث بقايا الأسلحة البيئة. وينطبق هذا على الذخائر التي لا تنفجر أيضاً مثل الألغام الأرضية، وقد تتسرب الملوثات الموجودة إلى التربة وتلوثها، وربما تتراكم بيولوجياً داخل النباتات، وتتسرب إلى المحاصيل أو أي شيء آخر، ثم ينتهي بها المطاف إلى الإنسان”.
كيف تلوث الحرب التربة لقرون؟
شددت الأمم المتحدة على أهمية الأثر البيئي للنزاع في سوريا؛ فقد أكدت أنه “لا يمكن إنكار أن الأولوية القصوى أثناء النزاعات المسلحة والحروب هي إنقاذ المدنيين ومعالجة جروحهم ونقلهم إلى مناطق آمنة. لكن كما يبدو أن الأمور خطيرة للغاية على الجانب الإنساني، فهي تزداد خطورة عند تجاهل تأثير المعارك العسكرية في البيئة، بخاصة التربة والمياه وهما من المصادر الرئيسية التي تعتمد عليها معيشة السوريين الذين يقبعون أصلاً تحت خط الفقر”.
عملنا في هذا التحقيق على مقارنة نتائج تسمم التربة في مناطق شهدت نزاعات سابقاً مع ما يحصل في سوريا.
وقد لوحظت الآثار المدمرة للحرب على الأرض في نزاعات سابقة أيضاً، فقد أشارت دراسة نشرها برنامج الأمم المتحدة للتنمية البيئية عام 2013، في مقاربة لما حدث في حرب الخليج، إلى أن الأخيرة التي استمرت من عام 1990 إلى عام 1991 تسببت بأضرار بيئية خطيرة، وتفاقم الوضع سوءاً بعد غزو العراق عام 2003.
ويُعزى ذلك إلى تشييد التحصينات العسكرية، إضافة إلى زرع وإزالة الألغام وتحركات الآليات العسكرية والعسكريين؛ إذ تعرضت النظم البيئية في الكويت والعراق والمناطق المحمية والصحراء إلى ضرر شديد، ما أدى إلى تسارع تآكل التربة وزيادة حركة الرمال، إضافة إلى الغبار والعواصف الرملية.
كما أن أوروبا لم تكن بمنأى عن الدمار الناجم عن الصراع؛ فقد كان للحرب العالمية الأولى في القرن الماضي تأثيرٌ كبيرٌ بسبب إزالة الغابات والتلوث الكيميائي الناتج عن الأسلحة، لدرجة أنه لا تزال هناك مناطق تعتبر غير صالحة للسكن بعد مرور أكثر من قرن من الزمان، ويشار إلى تلك المناطق في فرنسا باسم “المناطق الحمر”. (انظر مربع المعلومات أدناه).
وقد أدى مستوى التلوث بالمعادن الثقيلة والغازات السامة والأسلحة غير المنفجرة في هذه المنطقة إلى جعل الأراضي الزراعية غير صالحة للسكن في “المنطقة الحمراء” الفرنسية. (دراسة: تأثير الحرب العالمية الأولى على الغابات في غابات وتربة الآفات والتربة).
وبحسب منظمة الأغذية والزراعة العالمية “فاو”؛ يمكن أن تمتد هذه الآثار إلى الأجيال الأخرى، ولا تقتصر على الجيل الذي عانى من الصراع، حيث “تستخدم الحرب الحديثة أسلحة دمار غير قابلة للتحلل، ومواد كيميائية يمكن أن تبقى في التربة المتضررة لقرون بعد نهاية الصراع”.
 
من سينظف هذه المواد؟
المهندس الزراعي فادي عبيد، الذي تعرضت مزرعته في إدلب لهجوم من القوات الروسية وقوات النظام السوري، قال لنا: “تمتص التربة العناصر الثقيلة المكوِّنة للمواد المتفجرة، ثم تنتقل بعد ذلك للإنسان، وإذا تجاوزت نسبة المعادن الثقيلة الحد المسموح به فإنها قد تؤدي إلى الإصابة بالسرطان والتشوهات، كما أنها تنتقل إلى الحيوانات والأغنام والماشية التي يتغذى الإنسان على لبنها أو لحومها، ناهيك بخطر قتل المزارعين في حال انفجارها”.
وبحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر؛ فقد تسببت عشر سنوات من الأزمة في سوريا إلى أن ما يقدر بنحو 11.5 مليون شخص يعيشون في خطر الإصابة بالألغام الأرضية والمتفجرات من مخلفات الحرب، وبخاصة بعدما تحولت مساحات شاسعة من البلاد إلى حقول ألغام، وقد يستغرق الأمر عقوداً قبل تطهير سوريا بالكامل من التلوث بالأسلحة.
وبغض النظر عن عملنا هذا، تحتاج هذه المواضيع إلى متخصصين يعملون على تحليل التربة من خلال المختبرات، وربما لا وجود لأي منظمة داخل سوريا تعمل في هذا الشأن، كونه يتطلب جهوداً كبيرة وقدرات عالية.
ترتبط جميع عناصر الماء والهواء والتربة ببعضها بعضاً، وتأثرت جميعها بالحرب السورية التي امتدت لأكثر من عشر سنوات، وعلى رغم وجود أربع سلطات تدير هيئات مدنية وحكومات ذات آليات تنفيذية على الأرض تحكم مناطق مختلفة من سوريا، إلا أن أياً منها لم ينجح في وضع أي سياسة حوكمة مناسبة متعلقة بالبيئة، ولم يقدَّم أي دعم فعلي يمكن أن يساعد المزارعين السوريين على التعامل مع تسمم التربة الزراعية، أو دعمهم بسبب عدم قدرتهم على استخدام أراضيهم بالشكل الأمثل.
تدعم الدول المتقدمة في تصنيع الأسلحة جميع الأطراف المتصارعة عسكرياً في سوريا، وبغض النظر عن مدى اختلاف الأهداف التي تتنازع من أجلها هذه الأطراف، إلا أن الأمم المتحدة وقوانين الحرب تُلزم جميع الأطراف باحترام حقوق الإنسان والبيئة، وهذا يعني أن التدمير العشوائي الذي تسببه تلك الأطراف في سبيل تحقيق أهدافها العسكرية هو مسؤولية تلك الدول، حتى في حال انتقالها إلى صراعات أخرى.
ماذا يخبئ المستقبل؟ الخبير البيئي أيوغان داربيشاير يقول إن البلدان التي شهدت النزاعات ستكون الأكثر تضرراً بالتغير المناخي نتيجة ارتفاع نسبة غاز الكربون. أما أن يكون هناك أحد يتحمل مسؤولية تنظيف التربة، فهو سؤال مطروح ولكن لا يوجد ما يبشر بالخير لناحية المحاسبة والتعويض للمتضررين.
هذه النتائج تبدو مرعبة بالفعل، لا سيما مع تصريحات برنامج الأغذية العالمية: “مع دخول النزاع في سوريا عامه الحادي عشر، هناك نحو 12.4 مليون سوري في جميع أنحاء البلاد من مستويات غير مسبوقة من الفقر وانعدام الأمن الغذائي”.
*تم تغيير بعض الأسماء بطلب من أصحابها
تم إنتاج هذا المقال بالتعاون مع Unbiasthenews، وقام الصحافي محمد بسيكي بتدقيق المصادر، تحرير وفاء البدري للنسخة الأجنبية وباسكال صوما للغة العربية، شارك في تغطية الأحداث محمود أبو رأس وعبد الغني العريان.
“درج”