«هذه خطوط حمراء لا يجوز تجاوزها»، هتف رئيس دولة الاحتلال الإسرائيلي إسحق هرتزوغ، ولم يكن يقصد بالمتجاوزين أياً من الفلسطينيين أمثال مروان البرغوثي أو الشيخ رائد صلاح أو الشهيدة شيرين أبو عاقلة أو حتى يحيى السنوار؛ بل كان يشير، صراحة وبالاسم، إلى الحاخام مئير مزوز؛ أحد أشرس متشددي حاخامات «الحريديم»، اليهود الشرقيين، وعميد مجموعة «كيس رحيم» لتعليم التوراة والتلمود، والزعيم الروحي/ الناطق الأعلى صوتاً وتطرفاً باسم الجالية اليهودية التونسية في دولة الاحتلال. وأمّا الخطوط الحمراء فقد كانت لجوء الحاخام إلى التشهير العلني بعدد من الوزراء الإسرائيليين خلال شريط فيديو تمّ تداوله على نطاق واسع، وفيه يقول إنّ أولئك «خونة لشعبهم، وهم يمقتون شعبهم. إنهم أسوأ من النازيين، لأنّ النازيين يحبون شعبهم، لكن الوزراء هؤلاء يكرهون شعبهم»؛ ذاكراً بالاسم وزير الخارجية يائير لابيد، ووزير المالية أفيغدور ليبرمان، و«جميع أصدقائهم».
وفي الفيديو يظهر بعض هؤلاء «الخونة» وهم يرتدون ثياب ضباط نازيين، ولعلّ هذا كان أيضاً وراء النبرة المريرة التي طبعت حديث هرتزوغ عن تجاوز الخطوط الحمراء، لكنه يتناسى أنّ مزوز لم يكن أوّل من خوّن الساسة الإسرائيليين، ولا يلوح أنه سوف يكون الأخير؛ فالسبّاق الأشهر كان الحاخام أفراهام إسحق كوك من ليتوانيا، الذي أبدى الكثير من الاحتقار لهؤلاء الصهاينة «العلمانيين»، الذين يأكلون لحم الخنزير، ويتحدّون تعاليم الربّ بمحاولتهم تأسيس دولة يهودية قبل مجيء المخلّص، ويرطنون بأفكار ليبرالية أو اشتراكية ليست سوى هرطقة صريحة ضدّ التوراة. كذلك فإنّ السجال حول تعاون بعض قادة الصهاينة مع الرايخ الثالث ليس حبيس فيديوهات مزوز وحدها، بل سبق أن انتقل إلى العلن الصاخب الفاضح على يد اليهودي الهنغاري مالكئيل غرينفالد (أحد الناجين من الهولوكوست) الذي نشر كرّاساً صغيراً اتهم فيه اليهودي الهنغاري رودولف كاستنر (القيادي الصهيوني البارز وأحد أقطاب الـ«ماباي»، حزب دافيد بن غوريون) بالاتفاق مع الضابط النازي المعروف أدولف إيخمان على شحن نصف مليون يهودي هنغاري إلى معسكرات الإبادة، مقابل إنقاذ حياة كاستنر وبعض أقربائه، وغضّ النظر عن هجرة 1600 يهودي إلى فلسطين.
ما يتناساه هرتزوغ أيضاً، عن سابق تصميم وتعمّد أشدّ هذه المرّة، هو أنّ بذاءة سلطات الاحتلال في حماية، أو حتى المساعدة على، تنظيم شعائر يهودية في محيط المسجد الأقصى هذه الأيام؛ ليست في واقع الأمر سوى استجابة تطبيقية للفتوى التي كان مزوز، نفسه، قد أفتى بها قبل ثماني سنوات، وأجازت لليهود إقامة جملة من الشعائر التلمودية في نطاق ما يسمّيه «جبل الهيكل». في عبارة أخرى، دولة الاحتلال هي التي ترسم الخطوط الحمراء لبعض حاخاماتها، ولكنها تعتمد ما يفتون به في مسائل تخصّ تهويد القدس أو توطيد «القانون الأساسي» حول قومية الدولة اليهودية. وليس هذا التناقض الظاهري سوى جوهر التطابق العضوي، القديم والمتأصل، الذي سبق أن أفتى به تيودور هرتزل، صاحب الحلم بتأسيس دولة يهودية، حول ضرورة أن يكون الحاخامات على مرمى حجر من الساسة… دائماً وأبداً: «في الدولة اليهودية القادمة، لا بدّ من بقاء الكنيس ماثلاً أمام البصر. ينبغي أن يظل مرئياً».
وليس بعيداً ذلك الزمن الذي شهد تسريبات متعمدة صدرت عن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو، بصدد عزمه على اعتماد التلمود مصدراً للتشريع الإسرائيلي، حتى إذا كانت أكثر من 3000 سنة تفصل تعاليم «المشناة» و«الجمارة» عن خرافة دولة الاحتلال بوصفها «واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط». نتنياهو غائب اليوم، ولكنّ ظلاله (التي تتمسح بالتلمود خصوصاً) جاثمة قاتمة مرخاة في أروقة الكنيست؛ ولا عجب هنا أيضاً، ولا استعجاب!
“القدس العربي”