لا يخفي كيسنجر مخاوفه من انفلات الأوضاع الدولية نتيجة المواجهة القائمة بين روسيا والغرب، وفي هذا السياق اتى تحذيره من أن “مواصلة الحرب لن تكون متمحورة حول حرية أوكرانيا”، وإنما ستفتح الباب لـ”حرب جديدة ضد روسيا نفسها”.
تصريح وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر الذي أثار جدلاً واسعاً في أوروبا والذي دعا فيه أوكرانيا إلى تقديم تنازلات لروسيا، أعاد إلى ذاكرتي فيلم “ميونيخ حافة الحرب”، الذي كنت شاهدته على “نتفليكس”، ويتناول الأجواء التي سادت في أوروبا خلال عام 1938، عندما لاحت إشارات تنذر باندلاع حرب عالمية في الأجواء، وهو ما يحدث الآن بعد الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية الذي بدأ قبل أكثر من أربعة أشهر ولم ينته بعد.
يبدو أن ما يحدث في العالم يعيد الاعتبار الى ما كان قاله ماركس، “التاريخ يكرر نفسه مرتين، المرة الأولى كمأساة والثانية كمهزلة”. فمشاهد حشود الجيش الروسي على الحدود مع أوكرانيا، واستعراض عضلات زعيم الكرملين فلاديمير بوتين أسلحته الفتاكة وتهديداته بالحرب النووية، يستنسخان كل ما فعله الزعيم النازي أدولف هتلر قبل عام من الحرب العالمية الأولى.
يظهر هتلر في الفيلم وهو يستعرض قواته العسكرية الضخمة، ويُلوِّح بتغييرات سياسية وعسكرية كبرى تشهدها القارة، بينما رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين يتابع ويحلل ويتعمق في دراسة كل ما يقوله الزعيم النازي الذي يهدد باستخدام القوة العسكرية لغزو إقليم “السوديت”، في دولة تشيكوسلوفاكيا، بدعوى أن هذا الإقليم تسكنه غالبية ألمانية، وأن حكومة تشيكوسلوفاكيا تسيء معاملة هؤلاء. وهذا ما يقوله بوتين وتكرره آلة الدعاية الروسية عن دونباس والسكان الناطقين بالروسية، على رغم أن عددهم 800 ألف فقط، من أصل 4 ملايين نسمة.
ينقل الفيلم اللحظات الحرجة والايام الكالحة التي فرضت على الحلفاء ان يقرروا: هل يخوضون الحرب ضد ألمانيا من أجل تشيكوسلوفاكيا وحماية مصالحهم الدولية، أم يذهبون الى تسوية مع هتلر بالتنازل عن هذا الإقليم بهدف تجنُّب الحرب؟ أليس هذا ما يدعو إليه كيسنجر؟ آنذاك اتخذ رؤساء وزراء بريطانيا وفرنسا وإيطاليا قراراً بالتنازل عن الأراضي التشيكوسلوفاكية، وتوجهوا الى ميونيخ لوضع تواقيعهم على اتفاق اعتبر لاحقا بأنه احد أسوأ الاتفاقات الدولية. وكان موسوليني باشر وبطلب من تشمبرلين بإقناع هتلر بعقد هذا اللقاء متجاهلاً أن الديكتاتور الإيطالي هو حليف الزعيم النازي. برر تشامبرلن والقادة الأوروبيون الآخرون تسليمهم الإقليم التشيكي طواعية وبدون موافقة الحكومة المعنية التي استبعدت أصلاً من المفاوضات، بهدف منع نشوب الحرب وتحقيق السلام. ومع أن هتلر تعهد في الاتفاق بأن تكون السوديت آخر مطالبه الإقليمية، إلا أن هذا لم يحدث بالطبع، إذ شهد العام الذي تلى إبرامه، أي 1939، اندلاع الحرب العالمية الثانية، عندما اجتاحت القوات الألمانية بولندا.