كتب الشاعر الراحل مظفر النواب قصيدته «الشعبية» لكنه كما يرى كثيرون، لا يقارن مع زملائه من الشعراء الشعبيين حسب، وإنما مع الشعراء المجددين كالسياب وسعدي والآخرين.
لماذا يمتلك النواب هذه المزية دون سواه؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، من المهم الأشارة بالإجمال إلى تاريخ الشعر باللغة المحكية واختصار أطواره التاريخية.
الشعر الشعبي العراقي المكتوب باللهجة المحكية، هو من المظاهر الحديثة في الشعر العربي، كما هو في مصر ودول عربية أخرى، ويُرجّح بأنه نتاج المرحلة العثمانية الأخيرة من أطوار التاريخ، أي نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وقبل ذلك التاريخ لم تكن لغة الشعر محكية، ولم تدخل هذه اللغة – اللهجة في بنائه النصي أو سياقه الاجتماعي، كما لم يجر تدوينها، وابتدأ شكل القصيدة الشعبية بوصفها حلقة الربط بين الحاكم والأهالي وما يظهره القول من مفارقات ساخرة ومؤلمة بين بلاط الحاكم والمجالس الأهلية والمقاهي العامة، تضاف إلى تداول الأمثال البغدادية والفراتية والجنوبية، وتزيدها تناقلاً وتندراً بين الناس، وعبر هذه الأجواء انتشرت بما يشبه القصائد لعبود الكرخي وحاج زاير وسواهما، في تكريس وتدوين هذا الشكل من الشعر.
في هذا الطور من التاريخ، بزغ فجر ما يشبه المدن الحديثة وانتقلت أشكال وخامات الشعر الشعبي من الريف إلى المدينة ـ الحاضرة الدينية والمدنية – البغدادية والفراتية والجنوبية، وأصبح الموال والحسجة والزهيري وغيرها في تركيبة تقنية جديدة، تعوّل على الخامة الريفية الأصل لكنها تنحو نحو الشكل المديني. ولم تتخذ القصيدة الشعبية شكلها الفني المناسب – النص- الخالي من الفضاء الريفي إلا في مرحلة الستينيات من القرن الماضي من خلال ظهور بعض الشعراء وطبع مجاميعهم الشعرية، بحيث أقامت الحد الفاصل التقني شبه النهائي بين الريف والمدينة. وبذلك اندرج نمطان من القصيدة، الأول، ما تنتجه المدينة من داخلها، متمثلاً بشعراء ولدوا وعاشوا في المدينة، والثاني، ما تلقته المدينة من ضواحيها الريفية واندمج في سياقاتها اللغوية، لكنه تضمن تقنية وفضاء الريف، متمثلاً في شعراء هاجروا من الريف إلى المدينة، أي أن الأول، في بنائه التقني، يجعل اللغة أداة بناء نص وتدوين وحفظ ونحت وتشكيل فضاء ورؤية ومنظور هندسي منظم، بينما الثاني، الريفي المهاجر، يستعمل اللغة بوصفها غزلاً وظفراً ونسجاً وكلاما على الأسماع وروي ذاكرة محو، لذا فإن مظفرالنواب وأبو سرحان وزامل سعيد فتاح ورحيم الغالبي، وبالتأكيد هناك غيرهم، هم شعراء شعبيون في سياق تقنية المدينة، أما الآخرون وهم أصلاء حتماً فهم نتاج الهجرة والنزوح نحو المدينة.
يعد مظفر النواب كما ترى هذه السطور المتواضعة، أحد أبرز شعراء المدينة في هذا المضمار من الأدب الذي لا يجعله بموازاة شعراء اللغة المحكية في مدينته حسب، وإنما يتخطى ذلك إلى مقارنته بتجربة الرصافي والزهاوي الفنية والاجتماعية، فهو نتاج الطبقة الارستقراطية، وابن الحاضرة المدنية والدينية، وتكرست هذه المصادر في ارتقاء وعيه الفني، فضلاً عن دراسته اللغة العربية والشعر العربي منذ نعومة أظفاره، وحتى استكمال تعليمه الجامعي، والمفارق في تجربة النواب، أن عطاءه الأدبي، جنح إلى استخدام أداة لغوية جديدة لم يدرج عليها من سبقه أو عاصره، إلا في حدود معينة، وتعد درساً لسانياً في التجربة الأدبية والاجتماعية، إذ أن المفردة اللغوية المحكية أقرب إلى التلقي والذائقة الشعرية منها إلى المفردة اللغوية الفصيحة، لأن الأولى وحسب الدرس الألسني، تحمل طاقة وشحنة عاطفية ووجدانية في الاستعمال اليومي أكثر من الثانية الفصيحة الغائبة منذ قرون، كما يصفها مصطفى جواد، فكيف إذا تم صنع المفردة المحكية الفائقة الطاقة داخل تركيبة وبناء القصيدة الجديدة.
على هذا الأساس، اكتشف النواب تجربته التقنية والفنية التي انطلقت بمزامنة وموازاة مع ظهور التجديد الشعري لظاهرة السياب ونازك الملائكة والبياتي وسعدي، واستكملت في ارتقاء الظاهرة عند الستينيات من القرن الماضي.
وعلى هذا الأساس أيضاً، تطابقت تقنياً قصائد النواب الشعبية مع قصائد السياب وسعدي وغيرهما من حيث استخدام البلاغات النصية، وتناول الصيغ الفنية وبناء المعالجة اللغوية في الإيجاز والاستعارة والاشتقاق والنحت إلى جانب البناء الرمزي والتجريدي للطبيعة والأشياء واللون والحسي والمجرد، فضلاً عن استثمار البناء القصصي بواسطة المكان والزمان والشخصيات والضمائر السردية للمرأة والمخاطبة، نحن، هي، أنا في قصائد كاملة وإضفاء البعد الدرامي والتعبيري على القصيدة فلم تخل أي قصيدة للنواب من مزايا وتقنيات الشعر الحديث والمعاصر بكل مستوياته الفنية والتقنية. وإذا كان سعدي يوسف، مثلاً، يستخدم اللون الأزرق كرمز في مستوى نصي ليقول.. يهبط الليل أزرق… أرى شجراً أزرقاً، فإن النواب، يعبر بهذا الليل الأزرق الأبدي مصحوباً بالشهقة الصاعدة والنازلة « بالعابر بينه… بليل ازرك والشهكة اتحطك وتشيلك» أو يقول «لا تتجفل.. فاله ومنجل… ولماي ازرك».
وهناك استخدام واسع للون في أنحاء قصائد النواب إذ تغدو المناجل بيضاً والحب أخضر والصريفة خضراء «يا جدي المهرتك بالسحر خضره».
أما الأبعاد الاستعارية والتشبيهية، فقد تشكلت في أساليب متنوعة ضمن نسيج النصوص في جمل وعبارات استعارية وتشبيهية بارعة مثل: جن حمد فضة عرس، الروح مني عوسجة بر، سرجنه الدم على صهيل الشكر، وغيرها كثير، وثمة استعارات وتشبيهات تتخطى البعد اللغوي إلى البعد النصي مثل «تطش بعمري صم عتاب» أي قبضة عتب، إذ يتحد في العبارة المحسوس بالملموس كما هو سائد وذائع في أساليب الكتابة الحديثة حينذاك.
كان شعراء حركة التجديد الشعري، قد أمعنوا النظر في غنى الفصحى لإطلاق تجاربهم الفنية، غير ان النواب، عثر على كنز اللغة المحكية ليبني عليه تجربته، فأجرى معالجته الفنية بنفس وعي التجديد لدى الآخرين، لكن باستخدام أداة لغوية ثانية.
كاتب عراقي
“القدس العربي”