مرعب! المشهد الثقافي العربي مرعب ومحزن ومخيف. نكاد، بسببه، ألاّ نعرف مَنْ نحن.
جموع المثقفين المتزاحمة في الفضاء العربي بحثاً عن لحظة من الشهرة العابرة، توحي بالفشل والفاجعة. لكأن «جوع الشهرة» عندهم لا يُقاوَم. لكن السحر ينقلب، دائماً، على الساحر، كما يقولون.
المثقفون العرب، أو«العَمالَة الثقافية العربية» بالأحرى، لا يشبهون، اليوم، إلاّ عمّال المياومات القدماء، أولئك الذين كانوا يتكبّدون تلك المياوَمات الكئيبة، طويلة الأمد، والتي كانت، غالباً، مريرة، وقاسية، وبلا جدوى.
وها هُم، اليوم، في معظم الأحيان، «يُخلِّدون» «تذكاراتهم الأدبية» في مواقف مشهدية محزنة وهم يقفون بإجلال بين يدي مَنْ لا يستحقون الوقوف طويلاً بين أيديهم. وأحياناً نحسّهم متربّصين بجوائز متمنّاة وقد خاب أملهم مثل صيادين بؤساء غَرُبت عليهم الشمس ولم يصيبوا شيئاً. وهو ما يثير العطف عليهم أكثر مثلما يثير الإشمئزاز منهم.
جموع «البروليتاريا الثقافية العربية» هؤلاء، هم الذين صاروا، الآن، يتولّون الدعاية لسلعتهم الثقافية، وكأنها نوع من المنتوجات الضرورية للوجود. لكأنهم لا يدركون أن الثقافة معرفة. وأن المعرفة لا تتوسّل الاستجداء لإيصالها إلى حيث يجب أن تصل: القرّاء. وأنها، إضافة إلى ذلك، لا تتطلّب بالضرورة دعاية جَوْفاء، وبالخصوص، من صاحبها المسؤول عن إنتاجها. في حين أن الناشرين، أو مَنْ يقومون بهذا الدور الملتبَس، يوفّرون عناءهم، أو قُلْ يجْترّون أحلامهم غير البريئة، منتظرين آخر الشوط، حيث الكتاب لا يعني لهم إلا حَفْنة من النقود.
هكذا صار هؤلاء «البروليتاريون المثقفون» ينتهزون كل السوانح ليروّجوا لبضاعتهم الكاسدة، أو التي ستصير سريعاً كذلك. بضاعة بلا أبعاد ثقافية متحررة من القيود، أو أجنحة معرفية راسخة تمكّنها من أن تطير حرة بقوّة بنيتها الإبداعية الخاصة، بدلاً من أن تكون مجرد مطوّلات كتابية تتقصّد الحصول على «جائزة ملغومة» ستحركها قليلاً قبل أن يطويها النسيان.
كتابات من هذا النوع، هي التي تُتْخِم، الآن، الفضاء الثقافي العربي. وهي، غالباً، بلا بعد جوهري، وليس فيها جديد، ولا حتى قديم . إنها ضرب من «الكتابة اللَّغْو» أذا أردنا أن نقترب منها أكثر. وتكاد لا تستحق حتى القراءة. وإن اشتراها أصدقاء كتّابها الأقربون، أو بعض «المتحرّشين قرائياً» فهم يفعلون ذلك بفعل «التوامق والاستقراء». وهي حالة تختلف، كثيراً، عن «حالة القراءة المتمعّنة والممتعة والمفيدة». إنهم يشترونها ليكدّسوها دون أن يقرأوها، إلا نادراً. وإذا قرأوها، قرأوها بدافع الشفقة والإخلاص، أو للبحث عن خفايا حياة الكاتب الذي لا يهمّهم جوهره الإبداعي بقدر ما تهمّهم «مثالبه».
قرّاؤنا، هم أيضاً مثلنا محدودو السياق، وغير قادرين على الإنطلاق. لأن «الإنطلاق» نهج حياة لم يعرضه عليهم أحد من قبل، ولا حتى «اصدقاؤهم» الكُتّاب الذين «اشتروهم». وهم، أقصد القراء المحتملين، يعتقدون أنهم قد أدركوا من قبل حدود«كُتّابهم» المعرفية، ونواياهم الأجتماعية، ومساربهم السياسية، ولا يتوقعون من أيّ منهم أن يشذّ عن القاعدة. ومع ذلك، هُم يريدون أن يتأكدوا مما هم أكيدون منه تماماً.
هم «يشترونهم» ،إذن، من أجل « التكديس» وليس بدافع تقديس المتعة المعرفية التي يعرفون مسبقاً أن ما يشترونه خالٍ منها.
نحن حفظنا الدرس هذا جيداً منذ أيام «الكبار» الذين جعلونا نحذر منعطفات الدعاية الفجّة والتبهور والإنتظار. انتظار من يجيء إلى الطاولة لنوقع له ما لسنا بمقتنعين به لأنه لم يَفِ الوجود حقّه من التحرر والنقد والتحريض. ولأن ما نقذف به من «ابداع» بلا روية، هو لن يساعد القاريء على أن يصير أفضل منا عندما بدأنا نحن الكتابة، ولا أكثر وعياً ممّا كانه قبل القراءة.
واليوم، ما يجثم على صدر الفضاء الثقافي العربي، إلاّ نادراً، والاستثناء دائماً واجب لأنه من عمل الطبيعة، ما هو إلاّ «متاهة كرتونية» هائلة الحجم بلا رؤية معرفية متينة، أو موقف حاسم ومناهض للبؤس المعمم حولنا. وليس له من تفسير إلاّ الاستخفاف الثقافي المريع الذي يكاد أن يقارب السفاهة الإبداعية.
وهو ما يجعل «هذه المجازفة» مجازفة التسويق الذاتي للإبداع، وعلى رأسها التواقيع الموسمية العابرة، والمروّج لها بإتقان من قبل الناشرين الجشعين، تبدو بلا معنى. فما ننجزه اليوم، ثقافياً، في العالم العربي لا يشبه إلا فقاعات صابون في «حمّام حلبيّ» ساخن. فقاعات لُغوية تغمرنا بلا رحمة. وقد تجعلنا، بفعل كَمّها الهائل، نتزحلق، وننزاح نحو ما لم يكن يخطر لنا على بال.
وفي النهاية، لماذ يضحك بعضنا على بعضنا الآخر؟ ألا يجدر بنا كبشر، قبل أن نكون مثقفين، أن نتدبّر في مصيرنا الأسود، أو الذي صار يبدو اليوم لنا كذلك؟ ألا يرهبنا ما نعيشه من مآسٍ تدمّر استقرارنا النفسي والأخلاقي والسياسي وكذلك الإبداعيّ غير آبهين؟ ألا نريد أن نفهم أن «فقاعاتنا الثقافية» مهما بلغت كَمّاً ونوعاً لن تحمينا من الإنهيار؟ ألا يكفي ما صرفناه من حُقَب ونحن نتلاشى بين جهد ضائع وشهرة عابرة؟
وأخيراً، أما حان الوقت لنواجه مشاكلنا الخطيرة هذه «بوعي خطير» ونحن نعرف منذ أيام «الخُلَعاء»: «أن الخطأ لا يُصلحه إلاّ خطأ أكبر منه».
كاتب سوري
“القدس العربي”