يحاول الباحث محمد م.الأرناؤوط في كتابه الجديد “هجرة الألبان إلى دمشق في القرن العشرين وإسهامهم في الحياة الثقافية”(*)، الصادر قبل أيام، وضع خريطة لم يقرأ تفاصيلها أحد من قبل، ترسم المسارات التي خاضها المهاجرون الألبان بعد قدومهم إلى دمشق، هرباً من القمع الذي مورس عليها في ألبانيا أو كوسوفو. نعم، يحتاج الترسخ في أي مكان جديد، إلى خرائط تدل الغرباء، إلى أفضل سبل الحصول على الأمان وعلى الطمأنينة، وأيضاً القدرة على أن يكونوا فاعلين في المجتمع المضيف لهم. لكن المفارقة التي يكشفها في تتبعه لأثر الخطوات الأولى، أن الصيغة الراهنة في التعاطي مع الآخر الغريب، والتي لا تبدو مُرحّبة أو سعيدة بقدومه، لم تكن ممكنة في الشام. لقد جاء هؤلاء إلى الشام من بوابة هي أكبر من أي انتماء يدعيه أحد، ويحاول من خلاله تملك مفاتيحها، فيحاول إغلاقها او فتحها بمزاجه أو وفق مصالحه.
النموذج الألباني الذي بات راسخاً في حضوره الاجتماعي والاقتصادي والديني والثقافي، حمل إلى الشوام، فئة من الرجال الأتقياء، الذين يتنافسون في كتابة وتأليف القصائد في الرسول الكريم، كي تنشد في الموالد، وأيضاً أجيالاً لاحقة، تأصل حضورها في المدينة، ضمن سياق تأسيس لم يقم من خلال الانتماء، بل من خلال الانفتاح على الفضاء العام. سيرث الأبناء والأحفاد أسماء الآباء، لكنهم سيصبحون شخصيات أخرى مختلفة ومتفردة، تساهم في العمل المجتمعي والثقافي الدمشقي، فتبدأ سلالة الكتّاب والشعراء باللغة العربية بالظهور خارج الإطار الديني التقليدي، مثل مصطفى خلقي (1851-1916) ومعروف الأرناؤوط (1980-1949) وعلي خلقي(1924-1997) وعبد القادر الأرناؤوط (1936-1992).
ومن أحد بيوت الحي، سيظهر الفنان التشكيلي والشاعر عبد القادر أرناؤوط (1936-1992) الذي يعتبر من رواد الفن التشكيلي السوري، لا سيما في جانب الاتصالات البصرية؛ التصميم الإعلاني والعمل على الحروفيات، وأيضاً شقيقته عائشة، الشاعرة المبرزة في المشهد الشعري السوري الراهن، والتي تعيش في باريس، وأيضاً ابن عمهما بركات لطيف، الذي اشتهر بديوانه “أناشيد سائق القطار” المطبوع في وزارة الثقافة العام 1979.
يأخذ الكتاب القراء في جولة واسعة في التواريخ الشخصية للنخبة الألبانية الفاعلة في الثقافة العربية، من دون مغالاة في تقدير قيمة إسهاماتها، فهذا دور الفاعلين من النقاد والباحثين في كل مجال ونوع ثقافي أو فني. وهو بالإضافة إلى ذلك، يجمع الوثائق الأهم، التي توضح فعاليات الجماعة القومية التي صارت سوريّة، بكل ما تعنيه حمولة الانتماء من معاناة وضرائب.
تتميز دراسات محمد م.الأرناؤوط، لا سيما منها تلك الخاصة بالتاريخ السوري بشكل عام، بالموضوعية وبالمواظبة على تحري التفاصيل غير المتاحة، أو تلك التي غطت الأيام على تفاصيلها، وألقت الغبار على ملامحها. وهنا يمكن الإشارة إلى كتاب مهم آخر صدر للباحث، حمل عنوان “من الحكومة إلى الدولة.. تجربة الحكومة العربية في دمشق 1918-1920” وقد صدر قبل عامين بمناسبة الذكرى المئوية للدولة السورية الأولى.
(*) هجرة الألبان إلى دمشق في القرن العشرين وإسهامهم في الحياة الثقافية لمحمد م.الأرناؤوط. إصدار: الآن ناشرون وموزعون- عمان، 2022.”المدن”